[ ص: 203 ] هذه السورة مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان . قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن . فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان ، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها ، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام ، وسدى متين من فصاحة الكلمات .
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس ، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم .
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية ، وأساليب الكتب التشريعية ، وأساليب التذكير والموعظة ، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده ، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآيات . فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة ( وكانوا قبل الهجرة صنفين ) بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي .
وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدئ بذكرهم ، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة . ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة ، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم ، فكان ذلك من رد [ ص: 204 ] العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا .
وتخلص إلى صفة فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي بدء خلق الإنسان قوم نوح ومن بعدهم ، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم ، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله ، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها .
فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدى القرآن ، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي الآيات ، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل ، وبيان أخطائهم ، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم . وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومحاولة العمل بالسحر واتبعوا ما تتلو الشياطين إلخ وأذى النبيء بموجه الكلام لا تقولوا راعنا ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين إلى قوله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق وقالت اليهود ليست النصارى على شيء إلى يختلفون ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام .
وانتقل بهذه المناسبة إلى ، وبانيه ، ودعوته لذريته بالهدى [ ص: 205 ] والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة فضائل المسجد الحرام إبراهيم وهو التوحيد ، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ، وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما .
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك إلخ ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان ، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ثم تفصيلا : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام المعاشرة والعائلة ، المعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله ، والصدقات ، والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن ، والنكاح ، وأحكام النساء ، والعدة ، والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان . وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآيات .
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع ، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع ، من تمجيد الله وصفاته الله لا إله إلا هو ورحمته وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال أو كصيب واستحضار نظائر وإن من الحجارة [ ص: 206 ] ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وعلم وحكمة ، ، وتثبيت المسلمين ومعاني الإيمان والإسلام يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ليس البر أن تولوا وجوهكم وإخراج أهله منه أكبر عند الله والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية ، والرسل وتفاضلهم ، واختلاف الشرائع .