هذا فريق من الذين يريدون العزة من المشركين وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " الآية قاله أبو العالية ، فعطفهم على " من كان يريد العزة " تخصيص لهم بالذكر لما اختصوا به من تدبير المكر . وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام بذكره .
والمكر : تدبير إلحاق الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره ، وفعله قاصر .
وهو يتعلق بالمضرور بواسطة الباء التي للملابسة ، يقال : مكر بفلان . ويتعلق بوسيلة المكر بباء السببية يقال : مكر بفلان بقتله ، فانتصاب السيئات هنا على أنه وصف لمصدر المكر نائبا مناب المفعول المطلق المبين لنوع الفعل فكأنه قيل : والذين يمكرون المكر السيئ . وكان حق وصف المصدر أن يكون مفردا كقوله تعالى " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر عدل عن الإفراد إلى الجمع ، وأتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفعلات من المكر ، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة ، كما جاء ذلك في لفظ ( صالحة ) كقول جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
أي صالحات كثيرة ، وأنواع مكراتهم هي ما جاء في قوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " .والتعريف في السيئات تعريف الجنس . وجيء باسم الموصول للإيماء إلى أن مضمون الصلة علة فيما يرد بعدها من الحكم ، أي لهم عذاب شديد جزاء مكرهم . وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دأبهم وهجراهم .
ولما توعدهم الله بالعذاب الشديد على مكرهم أنبأهم أن مكرهم لا يروج ولا ينفق وأن الله سيبطله فلا ينتفعون منه في الدنيا ، ويضرون بسببه في الآخرة فقال " ومكر أولئك هو يبور " .
[ ص: 275 ] وعبر عنهم باسم الإشارة دون الضمير الذي هو مقتضى الظاهر لتمييزهم أكمل تمييز ، فيكنى بذلك عن تمييز المكر المضاف إليهم ووضوحه في علم الله وعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما أعلمه الله به منه ، فكأنما أشير إليهم وإلى مكرهم باسم إشارة واحد على سبيل الإيجاز .
والضمير المتوسط بين " مكر أولئك " وبين " يبور " ضمير فصل إذ لا يحتمل غيره . ومثله قوله تعالى " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " .
والراجح من أقوال النحاة قول المازني : أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع ، وحجته قوله " ومكر أولئك هو يبور " دون غير المضارع ، ووافقه في شرح الإيضاح عبد القاهر الجرجاني لأبي علي الفارسي ، وخالفهما أبو حيان وقال : لم يذهب أحد إلى ذلك فيما علمنا . وأقول : إن وجه وقوع الفعل المضارع بعد ضمير الفصل أن المضارع يدل على التجدد فإذا اقتضى المقام إرادة إفادة التجدد في حصول الفعل من إرادة الثبات والدوام في حصول النسبة الحكمية لم يكن إلى البليغ سبيل للجمع بين القصدين إلا أن يأتي بضمير الفصل ليفيد الثبات والتقوية لتعذر إفادة ذلك بالجملة الاسمية . وقد تقدم القول في ذلك عند قوله : " وأولئك هم المفلحون " ، فالفصل هنا يفيد القصر ، أي مكرهم يبور دون غيره ، ومعلوم أن غيره هنا تعريض بأن الله يمكر بهم مكرا يصيب المحز منهم على حد قوله تعالى " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين "
والبوار حقيقته : كساد التجارة وعدم نفاق السلعة ، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بضر وبين ما ينمقه التاجر ، وما يخرجه من عيابه ، ويرصفه على مبناته وسط اللطيمة مع السلع لاجتلاب شره المشترين . ثم لا يقبل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيم كف الخيبة ، فارغ الكف والعيبة .