ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة استئناف كلامي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بأن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيأوا للإيمان .
وإيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم ، وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء . فأقبل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ فيه وأنها إنما ينتفع بها المسلمون ، وهو أيضا يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإنذار والوعيد .
وأطلق الإنذار هنا على حصول أثره ، وهو الانكفاف أو التصديق به ، وليس المراد حقيقة الإنذار ، وهو الإخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينة تكرر الإنذار للمشركين الفينة بعد الفينة وما هو ببعيد عن هذه الآية ، فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنذر المشركين طول مدة دعوته ، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه بـ الذين يخشون ربهم بالغيب تعلق على معنى حصول أثر الفعل .
[ ص: 291 ] فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظن النبيء - صلى الله عليه وسلم - انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته ، وإن كانت صيغة القصر صالحة لمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإضافي . ونظير هذه الآية قوله في سورة ( يس ) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب وقوله فذكر بالقرآن من يخاف وعيد في سورة ( ق ) ، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم .
والغيب : ما غاب عنك ، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان ، أي الذين آمنوا حقا غير مرائين أحدا .
و " أقاموا الصلاة " أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإقامة كما تقدم في أول سورة البقرة .
ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى : إنما تنذر المؤمنين ، فعدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع ما فيهما من الإطناب ، تذرعا بذكر هاتين الصلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإيمان في الاعتقاد والعمل .
وجملة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه تذييل جار مجرى المثل . وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيل داخل في التذييل بادئ ذي بدء ، مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يخص العام به ، فالمعنى : إن الذين خشوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم ، فالمعنى : إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه .
والمقصود من القصر في قوله " فإنما يتزكى لنفسه " أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم ، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضرا على أنفسهم .
وجملة " وإلى الله المصير " تكميل للتذييل ، والتعريف في " المصير " [ ص: 292 ] للجنس ، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكي ومصير غير المتزكي ، أي وكل يجازى بما يناسبه .
وتقديم المجرور في قوله " وإلى الله المصير " للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة .