فلك أن تجعل جملة وجاء من أقصى المدينة عطفا على جملة جاءها المرسلون ولك أن تجعلها عطفا على جملة فقالوا إنا إليكم مرسلون .
والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله ( أصحاب القرية ) عبر عنها هنا بالمدينة تفننا ، فيكون أقصى صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة . والتقدير : من بعيد المدينة ، أي طرف المدينة ، وفائدة ذكر أنه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود وهم أبعد عن الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليهم الرسل ، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم بخلاف أطراف سكان المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان أطراف المدينة غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو .
وبهذا يظهر وجه تقديم ( من أقصى المدينة ) على ( رجل ) للاهتمام بالثناء [ ص: 366 ] على أهل أقصى المدينة . وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط ، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترفق وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة ، قال أبو تمام :
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
وأما قوله تعالى في سورة القصص وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى . فجاء النظم على الترتيب الأصلي إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحا ولم يكن داعيا للإيمان .وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به . وعن وأصحابه وجد أن اسمه ابن عباس حبيب بن مرة قيل كان نجارا - وقيل غير ذلك - فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن . وقيل : كان مؤمنا من قبل ، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنجار أنه هو " سمعان " الذي يدعى " بالنيجر " المذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل وأن وصف النجار محرف عن " نيجر " فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن اسم ابن عباس شمعون الصفا أو سمعان . وليس هذا الاسم موجودا في كتاب أعمال الرسل .
ووصف الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعا وأنه بلغه هم أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم ، فأراد أن ينصحهم خشية عليهم وعلى الرسل ، وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يقتدى به في . الإسراع إلى تغير المنكر
وجملة قال ( يا قوم ) بدل اشتمال من جملة ( جاء رجل ) لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور .
وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قصد منه أن في كلامه الإيماء إلى أن ما سيخاطبهم به هو محض نصيحة لأنه يحب لقومه ما يحب لنفسه .
والاتباع : الامتثال ، استعير له الاتباع تشبيها للأخذ برأي غيره بالمتبع له في سيره .
والتعريف في المرسلين للعهد .
[ ص: 367 ] وجملة اتبعوا من لا يسألكم أجرا مؤكدة لجملة ( اتبعوا المرسلين ) مع زيادة الإيماء إلى علة اتباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يدعون إلى هدى ، ولا نفع ينجر لهم من ذلك فتمحضت دعوتهم لقصد هداية المرسل إليهم ، وهذه كلمة حكمة جامعة ، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم .
وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم يجرون لأنفسهم نفعا من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه . فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة وليتهيوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه ، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم ، والتخلية تقدم على التحلية ، فكانت جملة لا يسألكم أجرا أهم في صلة الموصول .
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة . فلما نفي عنهم أن يسألوا أجرا فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم .
وبعد ذلك تهيأ الموقع لجملة ( وهم مهتدون ) أي وهم متصفون بالاهتداء إلى ما يأتي وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى ، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيبا في متابعتهم . بالسعادة الأبدية ،
واعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في الإيضاح والتلخيص للإطناب المسمى بالإيغال وهو أن يؤتى بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتم المعنى بدونه لنكتة ، وقد تبين لك مما فسرنا به أن قوله ( وهم مهتدون ) لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها ، وكان قوله ( من لا يسألكم أجرا ) كالتوطئة له . ونعتذر لصاحب التلخيص بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير .
[ ص: 368 ] وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلا عن دوامه وثباته ، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد .
وقوله ( ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) عطف على جملة ( اتبعوا المرسلين ) قصد إشعارهم بأنه اتبع المرسلين وخلع عبادة الأوثان ، وأبرز الكلام في صورة استفهام إنكاري وبصيغة : ما لي لا أفعل ، التي شأنها أن يوردها المتكلم في رد من أنكر عليه فعلا ، أو ملكه العجب من فعله أو يوردها من يقدر ذلك في قلبه ، ففيه إشعار بأنهم كانوا منكرين عليه الدعوة إلى فإن ذلك يقتضي أنه سبقهم بما أمرهم به . تصديق الرسل الذين جاءوا بتوحيد الله
و " ما " استفهامية في موضع رفع الابتداء ، والمجرور من قوله لي خبر عن ما الاستفهامية .
وجملة لا أعبد حال من الضمير . والمعنى : وما يكون لي في حال لا أعبد الذي فطرني ، أي لا شيء يمنعني من عبادة الذي خلقني ، وهذا الخبر مستعمل في التعريض بهم كأنه يقول : وما لي لا أعبد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم بقرينة قوله ( وإليه ترجعون ) إذ جعل الإسناد إلى ضميرهم تقوية لمعنى التعرض ، وإنما ابتدأه بإسناد الخبر إلى نفسه لإبرازه في معرض المناصحة لنفسه وهو مريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويدارئهم فيسمعهم الحق على وجه لا يثير غضبهم ويكون أعون على قبولهم إياه حين يرون أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه .
ثم أتبعه بإبطال فرجع إلى طريقة التعريض بقوله عبادة الأصنام أأتخذ من دونه آلهة وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره ، والاستفهام إنكاري أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة ، أي لا أتخذ آلهة .
والاتخاذ : افتعال من الأخذ وهو التناول ، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل ، فالاتخاذ مشعر بأنه صنع وذلك من تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإله الحق لا يجعل جعلا ولكنه مستحق الإلهية بالذات .
[ ص: 369 ] ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذ بجملة الشرط بقوله إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ، والمقصود : التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى . وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المولى أقوى وأهم ، ولحاق العار بالولي في عجزه عنه أشد .
وجاء بوصف الرحمن دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفا عند قوله تعالى قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء .
والإنقاذ : التخليص من غلب أو كرب أو حيرة ، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني .
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يشفع لا يشفع ، فكأنه قال : أأتخذ من دونه لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة . وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضر وينفع في صفات الإلهية كان انتفاء أن ينقذوا أولى . وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى إلى دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإيمان وهو أساس الصلاح . آلهة لا شفاعة لهم عند الله ،
وجملة إني إذا لفي ضلال مبين جواب للاستفهام الإنكاري . فحرف إذا جزاء للمنفي لا للنفي ، أي إن اتخذت من دون الله آلهة أكن في ضلال مبين .
وجملة إني آمنت بربكم فاسمعون واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل . وهذا إعلان لإيمانه وتسجيل عليهم بأن الله هو ربهم لا تلك الأصنام .
وأكد الإعلان بتفريع فاسمعون استدعاء لتحقيق أسماعهم إن كانوا في غفلة .