عطف الفاء جملة : " لما فصل " ، على جملة ( وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم ) لأن بعث الملك ، لأجل القتال ، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبيء ، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر : وهو الرضا بالملك ، ومجيء التابوت ، وتجنيد الجنود ; لأن ذلك مما يدل عليه جملة : فصل طالوت بالجنود .
ومعنى فصل بالجنود : قطع وابتعد بهم ، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد : لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل ، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال ، ولذلك تجد مصدره الفصل بوزن مصدر [ ص: 496 ] المتعدي ، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولا نظرا لحالة قصوره ، كما قالوا صده صدا ، ثم قالوا صد هو صدا ، ثم قالوا صد صدودا . ونظيره في حديث صفة الوحي أي فيفصل نفسه عني ، والمعنى فينفصل عني . أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال
وضمير " قال " راجع إلى طالوت ، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم ، لأنه لم يخرج معهم ، وإنما طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم ، مع أنه لم يكن نبيئا يوحى إليه : إما استنادا لإخبار تلقاه من أخبر صموئيل ، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك ، فأخبر عن اجتهاده ، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله ، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه : إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به ، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم ، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله ; إذ قد أمرهم بطاعته بها وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم : لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم ، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل ، وغضبه على العاصي ، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة ، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل ، والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد ، قوي العدد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم ، وتحملهم المتاعب ، وعزيمة معاكستهم نفوسهم ، فقال لهم إنكم ستمرون على نهر ، وهو نهر الأردن ، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني ، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه ، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإن السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة ، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم : لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب ، انحلت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء . والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم :
فلما شـارفـت أعـلام طـي وطي في المغار وفي الشعاب سقيناهن من سـهـل الأداوي
فمصطبح على عجـل وآبـي
[ ص: 497 ] والنهر بتحريك الهاء ، وبسكونها للتخفيف ونظيره في ذلك شعر وبحر وحجر فالسكون ثابت لجميعها .
وقوله فليس مني أي فليس متصلا بي ولا علقة بيني وبينه ، وأصل " من " في مثل هذا التركيب للتبعيض ، وهو تبعيض مجازي في الاتصال ، وقال تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء وقال النابغة :
إذا حاولت في أسد فجـورا فإني لست منك ولست مني
والاستثناء في قوله إلا من اغترف غرفة بيده من قوله فمن شرب منه لأنه من الشاربين ، وإنما أخره عن هذه الجملة ، وأتى به بعد جملة ومن لم يطعمه ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها ; لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد ، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأول ومفهوم الثانية ، فإن مفهوم من لم يطعمه فإنه مني أن من طعمه ليس منه ، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئا ، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب ، وليس هو قسما واسطة . والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه ، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول ، وإنما ذكرت قريبا منه قال في سفر صمويل : لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين ، وضنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم ; لأن شاول حلف القوم قائلا ملعون من يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي . وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر ، في حرب جدعون قاضي إسرائيل للمديانيين ، والظاهر أن الواقعة ، تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول .
وقوله لم يطعمه بمعنى لم يذقه ، فهو من الطعم بفتح الطاء ، وهو الذوق أي اختبار المطعوم [ ص: 498 ] وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها ، أو حلاوته أو ضدها ، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب ، ويعرف ذلك بالقرينة ، قال الحارث بن خالد المخزومي . وقيل العرجي :
فإن شئت حرمت النساء سواكـم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
والغرفة بفتح الغين في قراءة نافع ، وابن كثير ، وابن عامر وأبي جعفر المرة من الغرف وهو أخذ الماء باليد ، وقرأه حمزة ، وعاصم ، ، والكسائي ويعقوب ، وخلف ، بضم الغين ، هو المقدار المغروف من الماء ووجه تقييده بقوله بيده مع أن الغرف لا يكون إلا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب ، فيتناوله بعضهم كرها ، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد . وقد دل قوله فشربوا منه على قلة صبرهم ، وأنهم ، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعد مجاوزة النهر فقالوا ليسوا بأهل لمزاولة الحروب لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو ، وكانوا يسرون الخوف ، فلما اقترب الجيشان ، لم يستطيعوا كتمان ما بهم . وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت ، والتصريح باسمه ، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود " جليات " كان طوله ستة أذرع وشبرا ، وكان مسلحا مدرعا ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل ، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجبنهم .
[ ص: 499 ] وقوله قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله الآية ، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث الشهادة في سبيل الله فالظن على بابه . و " كم " في قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه كم من فئة خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفاقهم ، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والمتوكل فقالوا والله مع الصابرين .
والفئة الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض ، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة ، لأن الجيش يفيء إليها . وقوله ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا هذا دعاؤهم حين اللقاء بطلب الصبر من الله ، وعبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر والكثرة يتعاوران الألفاظ الدالة عليهما ، كقول أبي كبير الهذلي :
كثير الهوى شتى النوى والمسالك وقد تقدم نظيره ، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم ، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق .
وقد أشارت الآية في قوله فهزموهم إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة ، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم : إن نجاح طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل إفرايم في المغارات والغياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن ، ووجم طالوت واستخار صموئيل ، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلا نحو ستمائة رجل ، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل ، وتشجع الذين جبنوا واختبئوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة ، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة ، ظهر داود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكا على إسرائيل بعد حين ، وساق الله داود إلى شاول " طالوت " بتقدير عجيب فحظي عند شاول ، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه ، [ ص: 500 ] وحسن سمت ، وله نبوغ في رمي المقلاع ، فكان ذات يوم التقى وكان ذا شجاعة ونشاط الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جليات كما تقدم ، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه ، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون ، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود ، وصار داود بعد حين ملكا عوض شاول ، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكا نبيئا ، وعلمه مما يشاء . ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه في سورة الأنعام .