فإما على جعل النبأ بمعنى : نبأ خلق آدم فإن جملة " إذ قال ربك " بدل من " إذ يختصمون " بدل بعض من كل ؛ لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس ، فقد روى الترمذي بسنده عن مالك بن يخامر عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - حديثا طويلا في رؤيا النبيء - صلى الله عليه وسلم - محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري . قالها ثلاثا . ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه ، قلت : في الكفارات . قال : ما هن ؟ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المسجد ، وذكر أشياء من الأعمال الصالحة " ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق أنه رأى ربه تعالى فقال له : يا آدم " . وقال الترمذي : هو حديث حسن صحيح وقال عنه : إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في صحيحه وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية ، وإنما جعله البخاري الترمذي في كتاب التفسير لأن ما ذكر فيه بعض مما يختصم فيه أهل الملأ الأعلى ؛ مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصة خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله فسجد الملائكة يقتضي أنهم قالوا كلاما دل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به ، بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبين ما [ ص: 301 ] أجمل هنا وإن كان متأخرا إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتعاظ بكبر إبليس دون ما نشأ عن ذلك .
ويجوز أن يكون " إذ قال ربك " منصوبا بفعل مقدر ، أي : اذكر إذ قال ربك للملائكة ، وهو بناء على أن ضمير " هو نبأ عظيم " ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن " إذ يختصمون " مراد به خصومة أهل النار .
وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر ، وأبينها ما في سورة البقرة .
ووقع في سورة الحجر " إلا إبليس أبي " وفي هذه السورة " إلا إبليس استكبر " فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإباية .
ووقعت هنا زيادة " وكان من الكافرين " وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر من قوله " أن يكون مع الساجدين " الإباية من الكون من الساجدين لله ، أي : المنزهي الله عن الظلم والجهل .
ووقع في هذه السورة " وكان من الكافرين " ومعناه أنه كان كافرا ساعتئذ ، أي : ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبل كافرا ، ففعل ( كان ) الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت . قال : الزجاج
( كان ) جار على باب سائر الأفعال الماضية إلا أن فيه إخبارا عن الحالة فيما مضى ، إذا قلت : كان زيد عالما ، فقد أنبأت عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا ، وإذا قلت : سيكون عالما فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل ، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال اهـ .
وقد ، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان . فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك موريا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره . بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان
[ ص: 302 ] وهذا ناموس خلقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره ، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة ، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها . وقد مدح رجل عند بالخير ، فقال عمر بن الخطاب عمر : هل أريتموه الأبيض والأصفر ؟ يعني : الدراهم والدنانير . وقال الشاعر :
لا تمدحن امرءا حتى تجربه ولا تذمنه من قبل تجريب إن الرجال صناديق مقفلة
وما مفاتيحها غير التجاريب