قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم لا إكراه في الدين .
استئناف بيان ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبين في هذه الآية أنه ، وسيأتي الكلام على أنها محكمة أو منسوخة . لا إكراه على الدخول في الإسلام
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة ، المستقيم الشريعة ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافا بيانيا .
والإكراه الحمل على فعل مكروه ، فالهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا كراهية ، ولا يكون ذلك إلا بتخويف وقوع ما هو أشد كراهية من الفعل المدعو إليه .
والدين تقدم بيانه عند قوله : ملك يوم الدين وهو هنا مراد به الشرع .
والتعريف في ( الدين ) للعهد ، أي : دين الإسلام .
[ ص: 26 ] ونفي الإكراه خبر في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام ، أي : لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصا ، وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه ، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكن من النظر ، وبالاختيار ، وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام ، وفي الحديث ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أن هذه الآية نزلت بعد فتح أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأن آخر آية نزلت هي في سورة النساء يبين الله لكم أن تضلوا الآية ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبر عنه بالذمة ، ووضحه عمل النبيء - صلى الله عليه وسلم - وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبين هدي الإسلام وزال ما كان يحول دون اتباعه من المكابرة ، وحقق الله سلامة بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع لما تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، لذلك قال [ سورة التوبة 29 ] : إن الشيطان قد يئس من أن يعبد في بلدكم هذا قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدم من آيات القتال مثل قوله يا أيها النبيء جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم .
على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
أحدها آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله [ ص: 27 ] وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين .
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفار ولم تغي بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيدا بغاية آية : حتى يعطوا الجزية فلا تعارضه آيتنا هذه لا إكراه في الدين .
النوع الثالث : ما غيي بغاية كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فيتعين أن يكون منسوخا بهاته الآية وآية : حتى يعطوا الجزية كما نسخ حديث ، هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم . أمرت أن أقاتل الناس
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود : هي منسوخة بقوله : وسليمان بن موسى يا أيها النبيء جاهد الكفار والمنافقين فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا به . ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص . والاستدلال على نسخها بقتال النبيء - صلى الله عليه وسلم - العرب على الإسلام يعارضه أنه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفار ، فوجه الجمع هو التخصيص .
القول الثاني : إنها محكمة ولكنها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك : هي خاصة بأهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية وإنما ، وإلى هذا مال يجبر على الإسلام أهل الأوثان فقال : إن الشافعي ، قال الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس ابن العربي في الأحكام : وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس يحمل الآية عليه ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مقلاتا - أي : لا يعيش لها ولد - تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين .
[ ص: 28 ] وقال : نزلت في قصة رجل من السدي الأنصار يقال له أبو حصين من بني سلمة بن عوف وله ابنان جاء تجار من نصارى الشام إلى المدينة فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا معهم فجاء أبوهما فشكا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وطلب أن يبعث من يردهما مكرهين فنزلت : لا إكراه في الدين ولم يؤمر يومئذ بالقتال ، ثم نسخ ذلك بآيات القتال ، وقيل : إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرها فرارا من السيف ، على معنى قوله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر .
وقيل : إن المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي ، وإن نفي الإكراه نهي ، والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنهن أهل دين وأكرهوا المجوس منهم والمشركات .
وقوله : قد تبين الرشد من الغي واقع موقع العلة لقوله : لا إكراه في الدين ولذلك فصلت الجملة .
و ( الرشد ) بضم فسكون ، وبفتح ففتح ، الهدى وسداد الرأي ، ويقابله الغي والسفه ، والغي : الضلال ، وأصله مصدر : غوى ، المتعدي ، فأصله ( غوي ) قلبت الواو ياء ثم أدغمتا ، وضمن ( تبين ) معنى : تميز . فلذلك عدي بـ ( من ) وإنما تبين ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة .
وقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى تفريع على قوله : قد تبين الرشد من الغي إذ لم يبق بعد التبيين إلا الكفر بالطاغوت ، وفيه بيان الإكراه في الدين ، إذ قد تفرع عن تميز الرشد من الغي ظهور أن متبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارا .
والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمون الصنم الطاغية ، وفي الحديث ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه إلا من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان ، وهو الارتفاع والغلو في الكبر ، وهو مذموم ومكروه ، ووزن طاغوت على التحقيق طغيوت - فعلوت - من أوزان المصادر [ ص: 29 ] مثل ملكوت ورهبوت ورحموت ، فوقع فيه قلب مكاني - بين عينه ولامه - فصير إلى فلعوت طيغوت ليتأتى قلب اللام ألفا فصارت طاغوتا ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسما لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل ملكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر ، لا مثل رحموت ورهبوت في أنهما مصدران ، فتاؤه زائدة وجعل علما على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر . كانوا يهلون لمناة الطاغية
وعطف ويؤمن بالله على الشرط لأن نبذ عبادة الأصنام لا مزية فيه إن لم يكن عوضها بعبادة الله تعالى .
ومعنى ( استمسك ) تمسك ، فالسين والتاء للتأكيد كقوله : فاستمسك بالذي أوحي إليك وقوله فاستجاب لهم ربهم وقول النابغة : فاستنكحوا أم جابر . إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه ، والعروة بضم العين ما يجعل كالحلقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدلو عروة وللكوز عروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشد طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في الكشاف : العروة الوثقى من الحبل الوثيق .
و ( الوثقى ) المحكمة الشد ، و لا انفصام لها أي : لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة .
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيئة من أمسك بعروة وثقى من حبل ، وهو راكب على صعب أو في سفينة في هول البحر ، وهي هيأة معقولة شبهت بهيئة محسوسة ، ولذلك قال في الكشاف : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر بالمشاهد ، وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال : مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، فالمعنى أن ، كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم . المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا ، وهو ناج من مهاوي السقوط في الآخرة
[ ص: 30 ] وقد أشارت الآية إلى أن هذه فائدة للمؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك مما تطلبه النفوس ، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله : والله سميع عليم الذي هو تعريض بالوعد والثواب .