أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه .
تفريع على ما تقدم من قوله لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فرع عليه هذا الاستفهام التقريري .
و " من " موصلة ، مبتدأ ، والخبر محذوف دل عليه قوله لكن الذين اتقوا ربهم مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حاله لحال من حق عليه كلمة العذاب .
والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مثل الذي حق عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر ، أو تقديره : مثل من قسا قلبه بدلالة قوله فويل للقاسية قلوبهم وهذا من دلالة اللاحق .
وشرح الصدر للإسلام : استعارة لقبول العقل هدى الإسلام ومحبته . وحقيقة الشرح أنه : شق اللحم ، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه : علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والاطلاع على ما تحت ذلك .
ولما كان الإنسان إذا تحير وتردد في أمر يجد في نفسه عما يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تأثره في انضغاط نفسه حتى يصير تنفسه عسيرا ويكثر تنهده وكان [ ص: 380 ] عضو التنفس في الصدر ، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا : ضاق صدره ؛ قال تعالى عن موسى ويضيق صدري وقالوا : انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك : شرح الله صدره ، وجمع بينهما قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء في سورة الأنعام ، ومنه قولهم : فلان في انشراح ، أي : يحس كأن صدره شرح ووسع .
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة " شرح " للدلالة على قبول الإسلام لأن تعاليم الإسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحا بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافا للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راج رحمة ربه في الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره .
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالة الشرك أن اجتنب عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأمته وماشيته ونخله ، فشعر بعزة نفسه مرتفعا عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإسلام ، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة ، ولا ينطوي باطنه على غل ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يعد المسلمين لنفسه إخوانا ، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر ، واستغنى بالقناعة عن الضراعة إلا إلى الله تعالى ، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله ، وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره ، وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد ، فكان صدره منشرحا بالإسلام متلقيا الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس .
واللام في " للإسلام " لام العلة ، أي : شرحه لأجل الإسلام ، أي : لأجل قبوله .
وفرع على أن " شرح الله صدره للإسلام " قوله تعالى فهو على نور من ربه فالضمير عائد إلى من .
[ ص: 381 ] والنور : مستعار للهدى ووضوح الحق لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح .
واستعيرت على استعارة تبعية أو تمثيلية للتمكن من النور كما استعيرت في قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم على الوجهين المقررين هنالك . و " من ربه " نعت لنور و " من " ابتدائية ، أي : نور موصوف بأنه جاء به من عند الله فهو نور كامل لا تخالطه ظلمة ، وهو النور الذي أضيف إلى اسم الله في قوله يهدي الله لنوره من يشاء في سورة النور .