ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد
استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغر على القرآن الدالة على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالا يهجس في نفس السامع أن يقول : كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوما فيوما ، فتقع جملة ذلك هدى الله يهدي به من يشاء جوابا عن هذا السؤال الهاجس .
فالإشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه ، أي : ذلك المذكور هدى الله ، أي : جعله الله سببا كاملا جامعا لوسائل الهدى ، فمن فطر الله عقله ونفسه على الصلاحية لقبول الهدى سريعا أو بطيئا اهتدى به ، كذلك ومن فطر الله قلبه على المكابرة ، أو على فساد الفهم ضل فلم يهتد حتى يموت على ضلاله ، فأطلق على هذا الفطر اسم الهدى واسم الضلال ، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته .
فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله " ذلك هدى الله " راجع إلى ما هيأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك .
ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن [ ص: 392 ] وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفيا لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى أحسن الحديث وهو الكتاب ، أي : ذلك القرآن هدى الله ، أي : دليل هدى الله . ومقصده : اهتدى به من شاء الله اهتداءه ، وكفر به من شاء الله ضلاله .
فجملة ومن يضلل الله فما له من هاد تذييل للاستئناف البياني .
ومعنى " من يشاء " على تقدير : من يشاء هديه ، أي : من تعلقت مشيئته ، وهي إرادته بأنه يهتدي فخلقه متأثرا بتلك المشيئة فقدر له الاهتداء ، وفهم من قوله " من يشاء " أنه لا يهدي به من لم يشأ هديه وهو ما دلت عليه المقابلة بقوله ومن يضلل الله فما له من هاد أي من لم يشأ هديه فلم يقلع عن ضلاله فلا سبيل لهديه .
والمعنى : أن ذلك لنقص في الضال لا في الكتاب الذي من شأنه الهدى .