" حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " .
هذا تنفيذ القضاء الذي جاء في قوله وقضي بينهم بالحق وقوله ووفيت كل نفس ما عملت ، فإن عاقبة ذلك ونتيجته [ ص: 69 ] إيداع المجرمين في العقاب . وإيداع الصالحين في دار الثواب
وابتدئ في الخبر بذكر مستحقي العقاب لأنه الأهم في هذا المقام إذ هو مقام إعادة الموعظة والترهيب للذين لم يتعظوا بما تكرر في القرآن من العظات مثل هذه فأما أهل الثواب فقد حصل المقصود منهم فما يذكر عنهم فإنما هو تكرير بشارة وثناء .
والسوق : أن يجعل الماشي ماشيا آخر يسير أمامه ويلازمه ، وضده القود ، والسوق مشعر بالإزعاج والإهانة ، قال تعالى كأنما يساقون إلى الموت .
والزمر : جمع زمرة ، وهي الفوج من الناس المتبوع بفوج آخر ، فلا يقال : مرت زمرة من الناس ، إلا إذا كانت متبوعة بأخرى ، وهذا من الألفاظ التي مدلولها شيء مقيد .
وإنما جعلوا زمرا لاختلاف درجات كفرهم ، فإن كان المراد بالذين كفروا مشركي قريش المقصودين بهذا الوعيد كان اختلافهم على حسب شدة تصلبهم في الكفر وما يخالطه من حدب على المسلمين أو فظاظة ، ومن محايدة للنبيء صلى الله عليه وسلم أو أذى ، وإن كان المراد بهم جميع أهل الشرك كما تقتضيه حكاية الموقف مع قوله ( ألم يأتكم رسل ) كان تعدد زمرهم على حسب أنواع إشراكهم .
و ( حتى ) ابتدائية و ( إذا ) ظرف لزمان المستقبل يضمن معنى الشرط غالبا ، أي : سيقوا سوقا ملازما لهم بشدته متصلا بزمن مجيئهم إلى النار .
وجملة ( فتحت ) جواب إذا لأنها ضمنت معنى الشرط وأغنى ذكر ( إذا ) عن الإتيان ب " لما " التوقيتية ، والتقدير : فلما جاءوها فتحت أبوابها ، أي وكانت مغلقة لتفتح في وجوههم حين مجيئهم فجأة تهويلا ورعبا .
وقرأ الجمهور " فتحت " بتشديد التاء للمبالغة في الفتح . وقرأه عاصم وحمزة وخلف بتخفيف التاء على أصل الفعل . والكسائي
والخزنة : جمع خازن وهو الوكيل والبواب غلب عليه اسم الخازن لأنه يقصد لخزن المال .
[ ص: 70 ] والاستفهام الموجه إلى أهل النار استفهام تقريري مستعمل في التوبيخ والزجر كما دل عليه قولهم بعده ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين .
و ( منكم ) صفة ل ( رسل ) ، والمقصود من الوصف التورك عليهم لأنهم كانوا يقولون أبشرا منا واحدا نتبعه ، والتلاوة : قراءة الرسالة والكتاب لأن القارئ يتلو بعض الكلام ببعض ، وأصل الآيات : العلامات مثل آيات الطريق . وأطلقت على الأقوال الدالة على الحق ، والمراد بها هنا الأقوال الموحى بها إلى الرسل مثل صحف إبراهيم وموسى والقرآن ، وأخصها باسم الآيات هي آيات القرآن لأنها استكملت كنه الآيات باشتمالها على عظم الدلالة على الحق وإذ هي معجزات بنظمها ولفظها ، وما عداه يسمى آيات على وجه المشاكلة كما في حديث الرجم ، ولأن في معاني كثير من القرآن والكتب السماوية ما فيه دلائل نظرية على الوحدانية والبعث ونحوها من الاستدلال . أن اليهودي الذي أحضر التوراة وضع يده على آية الرجم
وأسندت التلاوة إلى جميع الرسل وإن كان فيهم من ليس له كتاب ، على طريقة التغليب .
وإضافة ( يوم ) إلى ضمير المخاطبين باعتبار كونهم فيه كقول النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع فالإضافة قائمة مقام التعريف ب " أل " العهدية . كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
وجوابهم بحرف ( بلى ) إقرار بإبطال المنفي وهو إتيان الرسل وتبليغهم فمعناه إثبات إتيان الرسل وتبليغهم .
و ( كلمة العذاب ) هي الوعيد به على ألسنة الرسل كما في قول بعضهم في الآية الأخرى فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون أي تحققت فينا ، فالتعريف في ( كلمة العذاب ) تعريف الجنس لإضافتها إلى معرفة بلام الجنس ، أي كلمات .
[ ص: 71 ] ومحل الاستدراك هو ما طوي في الكلام مما اقتضى أن تحق عليهم كلمات الوعيد ، وذلك بإعراضهم عن الإصغاء لأمر الرسل ، فالتقدير : ولكن تكبرنا وعاندنا فحقت كلمة العذاب على الكافرين ، وهذا الجواب من قبيل جواب المتندم المكروب فإنه يوجز جوابه ويقول لسائله أو لائمه " الأمر كما ترى " .
ولم يعطف فعل ( قالوا ) على ما قبله لأنه جاء في معرض المقاولة كما تقدم غير مرة انظر قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله قال إني أعلم ما لا تعلمون .
وفعل ( قيل ) مبني للنائب للعلم بالفاعل إذ القائل : ادخلوا أبواب جهنم ، هم خزنتها .
ودخول الباب : ولوجه لوصول ما وراءه قال تعالى ادخلوا عليهم الباب أي لجوا الأرض المقدسة ، وهي أريحا .
والمثوى : محل الثواء وهو الإقامة ، والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ما قبله والتقدير : بئس مثوى المتكبرين جهنم ووصفوا ب ( المتكبرين ) لأنهم أعرضوا عن قبول الإسلام تكبرا عن أن يتبعوا واحدا منهم .