استئناف بياني أثاره ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، ومثل جنة بربوة إلى آخر ما وصف من المثلين ، ولما أتبع بما يفيد أن ذلك إنما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، ثم أتبع بالنهي عن أن يتبعوا صدقاتهم بالمن والأذى - استشرفت نفس السامع لتلقي مثل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضرب المثل لمن كانوا بضد حالهم في حالة محمودة .
ضرب الله هذا مثلا لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق . وهو ، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهذا مقابل قوله [ ص: 54 ] نفقة الرئاء ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله الآية ، وقد وصف الجنة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنات وما يرجى منه توفر ريعها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنته ، بأنه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم ، وأنهم ضعفاء ، أي صغار ، إذ الضعيف في لسان العرب هو القاصر ، ويطلق الضعيف على الفقير أيضا ، قال تعالى : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا وقال أبو خالد العتابي :
لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنهن من الضعاف
وقد أصابه الكبر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة . فهذه أشد أحوال الحرص كقول الأعشى :كجابية الشيخ العراقي تفهق فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقته في ترقب لثوابها .
" فأصابها إعصار " أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات ، فيها نار أي شدة حرارة ، وهي المسماة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرقت الجنة ( أي أشجارها ) أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة .
والاستفهام في قوله " أيود " استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا والهيئة المشبهة محذوفة وهي هيئة . المنفق نفقة متبعة بالمن والأذى
روى أن البخاري سأل يوما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيم ترون هذه الآية نزلت : عمر بن الخطاب أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية ، فقال بعضهم : الله أعلم . فغضب عمر وقال : ( قولوا نعلم أو لا نعلم ) . فقال : ( في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ) . فقال ابن عباس عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال : ضربت مثلا لعمل . قال ابن عباس عمر : ( أي عمل ) . قال : لعمل . قال : صدقت : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عز وجل إليه شيطانا لما فني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله . ابن عباس
[ ص: 55 ] وقوله : كذلك يبين الله لكم الآيات تذييل ؛ أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم ، رجاء تفكركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة ، والتشبيه في قوله : كذلك يبين الله لكم الآيات نحو ما في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا .