اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب .
لا ريب في أن هذه الجمل الثلاث متصلة بالمقول الصادر من جانب الله تعالى ، سواء كان مجموع الجملتين السابقتين مقولا واحدا أم كانت الثانية منهما من مقول أهل المحشر .
وترتيب هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين ، عددت آثار التصرف بذلك الملك وهي الحكم على العباد بنتائج أعمالهم وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم ، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ولا هو بحاجة إلى التدبر والتأمل في طرق قضائه ، وعلى هذه النتائج جاء ترتيب اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ثم [ ص: 112 ] لا ظلم اليوم ، ثم إن الله سريع الحساب ، وأما مواقع هاته الجمل الثلاث فإن جملة ( اليوم تجزى ) إلخ واقعة موقع البيان لما في جملة ( لمن الملك اليوم ) وجوابها من إجمال ، وجملة لا ظلم اليوم واقعة موقع بدل الاشتمال من جملة اليوم تجزى كل نفس بما كسبت أي جزاء عادلا لا ظلم فيه ، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد لا النافية للجنس .
وتعريف ( اليوم ) في قوله اليوم تجزى كل نفس وقوله لا ظلم اليوم نظير تعريف لمن الملك اليوم ، وجملة إن الله سريع الحساب واقعة موقع التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء . وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما ، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن ( إن ) إذا جاءت في غير مقام رد الإنكار ، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكم . وسرعة الحكم تقتضي تملؤ الحاكم من العلم بالحق ، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب ، فكان قوله ( سريع الحساب ) علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض . والمعنى أن الله محاسبهم حسابا سريعا لأنه سريع الحساب .
والحساب مصدر حاسب غيره إذا حسب له ما هو مطلوب بإعداده ، وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء ، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها ، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله ، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمي يوم الجزاء ، وهو المراد في قوله تعالى يوم الحساب إن حسابهم إلا على ربي ، والباء في قوله ( بما كسبت ) للسببية أي تجزى بسبب ما كسبت ، أي جزاء مناسبا لما كسبت ، أي عملت .
وفي الآية إيماء إلى أن لأن الحق إن كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره ، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم ، ولعل صاحب الحق في حاجة إلى تعجيل حقه لنفع معطل أو لدفع ضر جاثم ، ولعله أن [ ص: 113 ] يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به ، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد . تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضرب من مضروب الجور
وإن كان الحق حق الله كان تأخير القضاء فيه إقرارا للمنكر . في صحيح البخاري أبا موسى على اليمن ثم أتبعه فلما قدم معاذ بن جبل معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له : انزل ، وإذا رجل موثق عند أبي موسى ، قال معاذ : ما هذا ؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهود . قال معاذ : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، ثلاث مرات ، فأمر به أبو موسى فقتل . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل