فضمير الرفع في جعلها عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله لعلهم يرجعون ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير جعلها .
وحكى في الكشاف أنه قيل : الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام . أبي بكر بن العربي
والضمير المنصوب في قوله وجعلها عائد إلى الكلام المتقدم . وأنث الضمير لتأويل الكلام بالكلمة نظرا لوقوع مفعوله الثاني لفظ كلمة لأن الكلام يطلق عليه كلمة كقوله تعالى في سورة المؤمنين إنها كلمة هو قائلها ، أي [ ص: 194 ] قول الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت . وقال تعالى كبرت كلمة تخرج من أفواههم وهي قولهم اتخذ الله ولدا وقد قال تعالى ( وأوصى بها إبراهيم بنيه ) ، أي بقوله أسلمت لرب العالمين فأعاد عليها ضمير التأنيث على تأويل ( الكلمة ) .
واعلم أنه إنما يقال للكلام كلمة إذا كان كلاما سائرا على الألسنة متمثلا به ، كما في قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، أو كان الكلام مجعولا شعارا كقولهم لا إله إلا الله كلمة الإسلام وقال تعالى أصدق كلمة قالها شاعر كلمة ولقد قالوا كلمة الكفر .
فالمعنى : جعل إبراهيم قوله إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني شعارا لعقبه ، أي جعلها هي وما يرادفها قولا باقيا في عقبه على مر الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام .
وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعم العقب ، فإن أريد بالعقب مجموع أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلا من تهود منهم أو تنصر ، وإن أريد من كل عقب فإن العرب لم يخلوا من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنصرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل ، ومثل المتحنفين كزيد بن عمرو بن نفيل ، . وذلك أن ( في ) ترد للتبعيض كما ذكرناه في قوله تعالى وأمية بن أبي الصلت وارزقوهم فيها واكسوهم في سورة النساء وقال سبرة بن عمرو الفقعسي من الحماسة :
ونشرب في أثمانها ونقامر
والعقب : الذرية الذين لا ينفصلون من أصلهم بأنثى ، أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في عقبه بالوصاية عليها راجيا أنهم يرجعون ، أي يتذكرون بها التوحيد إذا ران رين على قلوبهم ، أو استحسنوا عبادة الأصنام كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فيهتدون بتلك الكلمة حين يضيق الزمان عن بسط الحجة . وهذا شأن الكلام الذي يجعل شعارا لشيء فإنه يكون أصلا موضوعا قد تبين [ ص: 195 ] صدقه وإصابته ، فاستحضاره يغني عن إعادة بسط الحجة له .
وجملة لعلهم يرجعون بدل اشتمال من جملة " وجعلها كلمة باقية في عقبه " لأن جعله كلمة إنني براء مما تعبدون باقية في عقبه ، أراد منها مصالح لعقبه منها أنه رجا بذلك أن يرجعوا إلى نبذ عبادة الأصنام إن فتنوا بعبادتها أو يتذكروا بها الإقلاع عن عبادة الأصنام إن عبدوها ، فمعنى الرجوع ، العود إلى ما تدل عليه تلك الكلمة . ونظيره قوله تعالى وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون ، أي لعلهم يرجعون عن كفرهم .
فحرف ( لعل ) لإنشاء الرجاء ، والرجاء هنا رجاء إبراهيم لا محالة ، فتعين أن يقدر معنى قول صادر من إبراهيم بإنشاء رجائه ، بأن يقدر : قال : لعلهم يرجعون ، أو قائلا : لعلهم يرجعون .
والرجوع مستعار إلى تغيير اعتقاد طارئ باعتقاد سابق ، شبه ترك الاعتقاد الطارئ والأخذ بالاعتقاد السابق برجوع المسافر إلى وطنه أو رجوع الساعي إلى بيته .
والمعنى : يرجع كل من حاد عنها إليها ، وهذا رجاؤه قد تحقق في بعض عقبه ولم يتحقق في بعض كما قال تعالى قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي المشركين . ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبيء - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يكتمون دينهم تقية من قومهم ، وقد بسطت القول في هذا المعنى وفي أحوال أهل الفترة في هذه الآية في رسالة طهارة النسب النبوي من النقائص .
وفي قوله وجعلها كلمة باقية في عقبه إشعار بأن ، فيتجه أن الدعوة إلى العلم بوجود الله ووحدانيته كانت بالغة لأكثر الأمم بما تناقلوه من أقوال الرسل السابقين ، ومن تلك الأمم العرب ، فيتجه مؤاخذة المشركين على الإشراك قبل بعثة وحدانية الله كانت غير مجهولة للمشركين محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم أهملوا النظر فيما هو شائع بينهم أو تغافلوا عنه أو أعرضوا . فيكون أهل الفترة مؤاخذين على نبذ [ ص: 196 ] التوحيد في الدنيا ومعاقبين عليه في الآخرة وعليه يحمل ما ورد في صحاح الآثار من تعذيب عمرو بن لحي الذي سن عبادة الأصنام وما روي أن امرأ القيس وغير ذلك . وهذا الذي يناسب أن يكون نظر إليه أهل السنة الذين يقولون : إن معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل وهو المشهور عن حامل لواء الشعراء إلى النار يوم القيامة الأشعري ، والذين يقولون منهم إن المشركين من أهل الفترة مخلدون في النار على الشرك .
وأما الذين قالوا بأن معرفة الله واجبة عقلا وهو قول جميع الماتريدية وبعض الشافعية فلا إشكال على قولهم .