ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفه بأنه ذكر وبيان للناس ، ووصف عناد المشركين في الصد عنه والإعراض ، وأعلموا بأن الله لا يترك تذكيرهم ومحاجتهم لأن الله يدعو بالحق ويعد به .
وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم ، وفي تنبيههم إلى دلائل حقية ما يدعوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن ، وفضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالون ، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم ، وتقضى ذلك بمزيد البيان ، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقوله ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر إلى قوله " عظيم " ، وما ألحق به من التكملات ، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم [ ص: 208 ] عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سببا لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد . وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها ، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البين ، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمي ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبعا على القلب وأكنة فيه وختما عليه ، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور ؛ فربما أضاءت فصادفت قوة نور الحق حالة وهن الشيطان فتتغلب القوة الملكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله . ولا يضعف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار
وقد أشار إلى ذلك قوله " أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين " كما تقدم هنالك ، ولولا ذلك لما ارعوى ضال عن ضلاله ولما نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين .
فجملة " ومن يعش عن ذكر الرحمن " عطف على جملة " ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر " الآية .
وقوله ومن يعش عن ذكر الرحمن تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر بحال من يعشو عن الشيء الظاهر للبصر .
و يعش : مضارع عشا كغزا عشوا بالواو ، إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى ، وإما العشا بفتح العين والشين فهو اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء ، يقال : عشي بالياء مثل عرج إذا كانت في بصره آفة العشا ومصدره عشى بفتح العين والقصر مثل العرج .
والفعل واوي عشا يعشو ، ويقال عشي يعشى إذا صار العشا له آفة ؛ لأن أفعال الأدواء تأتي كثيرا على فعل بكسر العين مثل مرض .
وعشي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء .
[ ص: 209 ] فمعنى ومن يعش من ينظر نظرا غير متمكن في القرآن ، أي من لا حظ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه ، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل .
وعدي يعش بـ ( عن ) المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمن وإلا فإن حق عشا أن يعدى بـ ( إلى ) كما قال الحطيئة :
متى تأته تعشه إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
ولا يقال : عشوت عن النار إلا بمثل التضمين الذي في هاته الآية . فتفسير من فسر " يعش عن ذكر الرحمن " بمعنى يعرض : أراد تحصيل المعنى باعتبار التعدية بـ ( عن ) ، وإنكار من أنكر وجود عشا بمعنى أعرض أراد إنكار أن يكون معنى أصليا لفعل عشا وظن أن تفسيره بالإعراض تفسير لمعنى الفعل وليس تفسيرا للتعدية بـ ( عن ) فالخلاف بين الفريقين لفظي .
و " ذكر الرحمن " هو القرآن المعبر عنه بالذكر في قوله أفنضرب عنكم الذكر صفحا . وإضافته إلى الرحمن إضافة تشريف وهذا ثناء خامس على القرآن .
والتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه ، وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة ، أي القشر المحيط بما في داخل البيضة من المح لأن القيض يلازم البيضة فلا يفارقها حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض .
فصيغة التفعيل للجعل مثل طين الجدار : ومثل أزره ، أي ألبسه الإزار ، ودرعوا الجارية ، أي ألبسوها الدرع . وأصله هنا تشبيه أي نجعله كالقيض له ، ثم شاع حتى صار معنى مستقلا ، وقد تقدم في قوله تعالى وقيضنا لهم قرناء في سورة فصلت فضم إليه ما هنا .
وأتى الضمير في ( له ) مفردا لأن لكل واحد ممن تحقق فيهم الشرط شيطانا وليس لجميعهم شيطان واحد ولذلك سيجيء في قوله قال يا ليت بيني وبينك بالإفراد ، أي قال كل من له قرين لقرينه .
[ ص: 210 ] ولم يذكر متعلق فعل " نقيض " اكتفاء بدلالة مفعوله وهو شيطانا فعلم منه أنه مقيض لإضلاله ، أي هم أعرضوا عن القرآن لوسوسة الشيطان لهم .
وفرع عن نقيض قوله فهو له قرين لأن النقيض كان لأجل مقارنته .
ومن الفوائد التي جرت في تفسير هذه الآية ما ذكره صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج في ترجمة الحفيد محمد بن أحمد بن محمد الشهير بابن مرزوق قال ( قال صاحب الترجمة : حضرت مجلس شيخنا أول مجلس حضرته فقرأ " ابن عرفة ومن يعش عن ذكر الرحمن " فقال : قرئ ( يعشو ) بالرفع و ( نقيض ) بالجزم . ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته . وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام . فاهتديت إلى تمامه وقلت : يا سيدي معنى ما ذكر أن جزم ( نقيض ) بـ ( من ) الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنها من معنى الشرط ، وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة . فوافق وفرح لما أن الإنصاف كان طبعه . وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت : نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو : الذي يأتيني فله درهم ، فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت : قال ابن مالك فيما يشبه المسألة
وقد يجزمه مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
فجاء الشاهد موافقا للحال . قال : وكنت في طرف الحلقة ، فصاح وقال : يا أخي ما بغينا ، لعلك ابن عرفة ابن مرزوق ؟ فقلت : عبدكم ) انتهى من اغتنام الفرصة . ا ه .
وجيء بالجملة المفرعة جملة اسمية للدلالة على الدوام ، أي فكان قرينا مقارنة ثابتة دائمة ، ولذلك لم يقل : نقيض له شيطانا قرينا له . وقدم الجار والمجرور على [ ص: 211 ] متعلقه في قوله : له قرين للاهتمام بضمير من يعشو عن ذكر الرحمن أي قرين له مقارنة تامة .
وقرأ الجمهور نقيض بنون العظمة . وقرأ يعقوب ياء الغائب عائدا ضميره على " الرحمن " .