هذا معطوف على قوله : إذا تداينتم بدين الآية ، فجميع ما تقدم حكم في الحضر والمكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد ، فقد شرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالبا ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة .
والرهان جمع رهن ، ويجمع أيضا على رهن بضم الراء وضم الهاء . وقد قرأه جمهور العشرة بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمعه باعتبار تعدد المخاطبين بهذا الحكم .
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسمية للمفعول بالمصدر كالخلق ، : أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه ، وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال تعالى : ومعنى الرهن كل نفس بما كسبت رهينة فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه . قال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
والرهن شائع عند العرب ؛ فقد كانوا يرهنون في الحمالات والديات إلى أن يقع دفعها ، فربما رهنوا أبناءهم ، وربما رهنوا واحدا من صناديدهم ، قال الأعشى يذكر أن كسرى رام أخذ رهائن من أبنائهم :آليت لا أعطيه من أبنائنا رهنا فنفسدهم كمن قد أفسدا
فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكا
ومعنى ( فرهان ) : أي فرهان تعوض بها الكتابة ، ووصفها بمقبوضة إما لمجرد الكشف ؛ لأن الرهان لا تكون إلا مقبوضة ، وإما للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر . فيؤخذ من الإذن في الرهن أنه مباح . فلذلك إذا سأله رب الدين أجيب إليه ، فدلت الآية على أن الرهن توثقة في الدين .
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها ، وأما مشروعية الرهن في الحضر فلأن تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقا بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير ، إذا لم يوجد الشاهد في السفر ، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حال خاصة لا للاحتراز ، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلا إذا سيقت مساق الاحتراز ، ولذا لم يعتدوا بها إذا خرجت مخرج الغالب ، ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضا ، إذ قد علم من الآية أن الرهن معاملة معلومة لهم ، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه .
وقد أخذ مجاهد ، والضحاك ، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر ، مع أن السنة أثبتت وقوع الرهن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة في الحضر . وداود الظاهري ،
والآية دليل على أن القبض من متممات الرهن شرعا ، ولم يختلف العلماء في ذلك ، وإنما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض ، فقال : الشافعي لظاهر الآية ، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده ، وقال القبض شرط في صحة الرهن : لا يجوز الرهن بدون قبض ، وتردد المتأخرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة ، فقال جماعة : هو عنده شرط في الصحة كقول [ ص: 122 ] محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة وقال جماعة : هو شرط في اللزوم قريبا من قول الشافعي ، مالك ، واتفق الجميع على أن ، وذهب للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز مالك إلى أن القبض شرط في اللزوم ، لأن الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع ، والقبض من لوازمه ، فلذلك يجبر الراهن على تحويز المرتهن إلا أنه إذا كان المرتهن أسوة الغرماء ; إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء ، والآية تشهد لهذا لأن الله جعل القبض وصفا للرهن ، فعلم أن ماهية الرهن قد تحققت بدون القبض ، وأهل مات الراهن أو أفلس قبل التحويز تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملك ، ويعدون ذلك في رهن الدين حوزا .
وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع ، لأن الله تعالى جعل الرهن عوضا عن الشهادة في التوثيق فلا وجه للانتفاع ، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثقا إلى ماهية البيع .