إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون
موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين ، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن ، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك .
وأكد بـ ( إن ) وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم في سورة الزخرف .
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال لآيات للمؤمنين وقال آيات لقوم يوقنون دون أن يقال : لآيات لكم أو آيات لكم ، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين . ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك .
والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته [ ص: 327 ] من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له .
وعطف جملة وفي خلقكم إلخ على جملة إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه .
والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل : وفي خلق الله ما يبث من دابة . وتقدم البث في قوله تعالى وبث فيها من كل دابة في سورة البقرة .
وعبر بالمضارع في يبث ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها .
والدابة تطلق على كل ما يدب على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه .
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات . والرزق : القوت . وقد ذكر في آية سورة البقرة وما أنزل الله من السماء من ماء .
وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدة .
والمراد بـ " المؤمنين " ، وبـ " قوم يوقنون " ، و " بقوم يعقلون " واحد ، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون ، أي يعلمون دلالة الآيات .
والمعنى : أن المؤمنين والذين يوقنون ، أي يعلمون ولا يكابرون ، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لابد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددا ، وازداد إيمانا من كان مؤمنا فصار موقنا . فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم [ ص: 328 ] المؤمنون العاقلون ، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتلاء بعضها لبعض .
وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل .
وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون استفهاما إنكاريا بمعنى النفي .
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية ، فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطلين الذين ينفون وجود الصانع المختار ( وفي العرب فريق منهم ) .
فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها .
وقرأ الجمهور قوله آيات لقوم يوقنون وقوله آيات لقوم يعقلون برفع " آيات " فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران . وتقدر ( في ) محذوفة في قوله واختلاف الليل والنهار لدلالة أختها عليها التي في قوله وفي خلقكم .
والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد .
وقرأها حمزة والكسائي وخلف " آيات " في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة فـ " آيات " الأول عطف على اسم ( إن ) و " في خلقكم " عطف على خبر ( إن ) فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه ، وأما آيات لقوم يعقلون فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عاملين مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما ( إن ) و ( في ) على اعتبار أن الواو عاطفة آيات وليست عاطفة جملة " في خلقكم " [ ص: 329 ] الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول هذه القراءة بتقدير ( في ) عند قوله سيبويه واختلاف الليل والنهار لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة " آيات " على اسم ( إن ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين .
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل . وجعل في أماليه قراءة الجمهور برفع " آيات " في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين ؛ لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال : وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيا وهما سواء . وقرأ ابن الحاجب يعقوب ( آيات ) الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح ، والسحاب .