استئناف ابتدائي ، للانتقال من النذارة إلى التهديد ، ومن ضرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر ، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأن أمرهم صائر إلى زوال ، وأن أمر الإسلام ستندك له صم الجبال . وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها ; لأن المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة والتذكير بوصف يوم كان عليهم ، يعلمونه . و " الذين كفروا " يحتمل أن المراد بهم المذكورون في قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم فيجيء فيه ما تقدم . والعدول عن ضمير " هم " إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة .
والظاهر أن المراد بهم المشركون خاصة ، ولذلك أعيد الاسم الظاهر ، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده : قد كان لكم آية إلى قوله : ترونهم مثليهم رأي العين وذلك مما شاهده المشركون يوم بدر .
[ ص: 176 ] وقد قيل : أريد بالذين كفروا خصوص اليهود ، وذكروا لذلك سببا رواه الواحدي ، في أسباب النزول : أن يهود يثرب كانوا عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مدة فلما أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة . نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم : لتكونن كلمتنا واحدة ، فلما رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية .
وروى محمد بن إسحاق : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود وقال لهم يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم أني نبيء مرسل . فقالوا : يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا معرفة لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ، أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية . وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح لما غلب قريظة والنضير وخيبر ، وأيضا فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال .
وعطف بئس المهاد على ستغلبون عطف الإنشاء على الخبر .
وقرأ الجمهور : ستغلبون وتحشرون - كلتيهما بتاء الخطاب - وقرأه حمزة ، وخلف ، بياء الغيبة ، وهما وجهان فيما يحكى بالقول لمخاطب ، والخطاب أكثر : كقوله تعالى : والكسائي ، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ولم يقل : ربك وربهم .
والخطاب في قوله : قد كان لكم آية خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ; لأن المقام للمحاجة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافا ناشئا عن قوله : " ستغلبون " إذ لعل كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجب السامعين من غلبهم . فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخص شخصا في مكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : [ ص: 177 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين السيف بيننا لسائلة عنا حفي سؤالها
وهذه الآية تحتمل المعنيين .وقوله : فئة تقاتل تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ; وقد تقدم الكلام عليها في قوله تعالى : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله في سورة البقرة .
والخطاب في " ترونهم " كالخطاب في قوله : قد كان لكم .
والرؤية هنا بصرية لقوله : رأي العين .
والظاهر أن بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم . وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : الكفار رأوا المسلمين يوم ويقللكم في أعينهم فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهبتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إراءة القلة وإراءة الكثرة سببي نصر للمسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا ; لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافوا الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويكون ضمير الغيبة في قوله : مثليهم راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله " ترونهم مثليكم " على أنه من المقول .
[ ص: 178 ] وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : " ترونهم " - بتاء الخطاب - وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من وأخرى كافرة ، أو من فئة تقاتل في سبيل الله أي مثلي عدد المرئيين ، إن كان الراءون هم المشركين ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين ; لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر ، وكل فئة علمت رؤيتها وتحديت بهاته الآية . وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التعبير بـ " فئتكم وفئتهم " إلى قوله : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع ، بطريقة التوجيه .
و رأي العين مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل " رأى " يحتمل البصر والقلب ، وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لـ " رأى " القلبية ، كيف والرأي اسم للعقل ، وتشاركها فيها " رأى " البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة والله يؤيد بنصره من يشاء تذييل ; لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين ، قال تعالى : وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا .