والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .
لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقبت تهديدهم بما يقوض توهمهم ، فوجه إليه الخطاب يذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات ولم تكن شيئا ، فلا تعد إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلا شيئا يسيرا ، كما قال تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قوله " إني لكم منه نذير مبين " معترضة بين جملة " وقوم نوح من قبل " إلخ ، وجملة كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الآية .
وابتدئ بخلق السماء ؛ لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس ، وعطف عليه خلق الأرض عطف الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي . وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظر فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان .
واستعير لخلق السماء فعل البناء ؛ لأن منظر السماء فيما يبدو للأنظار شبيه بالقبة ، ونصب القبة يدعى بناء .
وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته ؛ لأن أثره ينبئ عن عظيم كيفيته ، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية .
[ ص: 16 ] والأيد : القوة . وأصله جمع يد ، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة ، وتقدم عند قوله تعالى " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " في سورة ص .
والمعنى : بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها .
وتقديم السماء على عامله للاهتمام به ، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين : مرة بنفسه ، ومرة بضميره ، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة . وزيد تأكيده بالتذييل بقوله " وإنا لموسعون " والواو اعتراضية .
والموسع : اسم فاعل من أوسع ، إذا كان ذا وسع ، أي قدرة . وتصاريفه جائية من السعة ، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق ، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الإفراد مثل عمومها في ورحمتي وسعت كل شيء ، ووفرة المال مثل " لينفق ذو سعة من سعته ، وقوله " وعلى الموسع قدره " ، وجاء في أسمائه تعالى الواسع إن الله واسع عليم . وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية : الوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، والحكمة ، قال تعالى " إن الله واسع عليم " ومنه قوله هنا " وإنا لموسعون " .
وأكد الخبر بحرف إن لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بلاها .