[ ص: 79 ] وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون .
عطف على جملة أم يقولون شاعر وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أروا كسفا ساقطا من السماء وقيل لهم : هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم .
ويجوز أن يكون كسفا تلويحا إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإسراء وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى قوله أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا . وظاهر ما حكاه عن الطبري ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك ، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك .
والمعنى : إن يروا كسفا من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا : هذا سحاب ، وهذا المعنى مروي عن قتادة .
وهو من قبيل قوله تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .
والكسف بكسر الفاء : القطعة ، ويقال : كسفه . وقد تقدم في سورة الإسراء .
و من السماء صفة ل " كسفا " ، و " من " تبعيضية ، أي : قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب .
والمركوم : المجموع بعضه فوق بعض يقال : ركمه ركما ، وهو السحاب الممطر قال تعالى ثم يجعله ركاما .
[ ص: 80 ] والمعنى : إن يقع ذلك في المستقبل يقولوا سحاب ، وهذا لا يقتضي أنه يقع ؛ لأن أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع . ووقع سحاب مركوم خبرا عن مبتدأ محذوف ، وتقديره : هو سحاب وهذا سحاب .
والمقصود : أنهم يقولون ذلك عنادا مع تحققهم أنه ليس سحابا .
ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يتركهم ، أي : يترك عرض الآيات عليهم ، أي : أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات ؛ لأنهم لا يقترحون ذلك طلبا للحجة ولكنهم يكابرون ، قال تعالى ( إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) .
وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم .
ويجوز أن يكون الأمر في قوله " فذرهم " مستعملا في تهديدهم ؛ لأنهم يسمعونه حين يقرأ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه : دعه فإنه لا يقلع .
وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد ؛ لأنهم بعد أن يصعقوا لا تعاد محاجتهم بالأدلة والآيات .
وقرأ الجمهور " يلاقوا " . وقرأه أبو جعفر ( يلقوا ) بدون ألف بعد اللام .
واليوم الذي فيه يصعقون : هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض .
وإضافة اليوم إلى ضميرهم ؛ لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة . وذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين : فلان قدري ، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر . فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه ؛ أو لأنه اليوم الذي أوعدوه ، فالإضافة لأدنى ملابسة .
ونظيره قوله تعالى وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .
[ ص: 81 ] والصعق : الإغماء من خوف أو هلع قال تعالى وخر موسى صعقا ، وأصله مشتق من الصاعقة ؛ لأن المصاب بها يغمى عليه أو يموت ، يقال : صعق ، بفتح فكسر ، وصعق بضم وكسر .
وقرأه الجمهور " يصعقون " بفتح المثناة التحتية ، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة .
وذلك هو يوم الحشر قال تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه ، شبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثبات الملاقاة إليه تخييل . والملاقاة مستعارة أيضا للحلول فيه ، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره .
و يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا بدل من " يومهم " وفتحته فتحة إعراب ؛ لأنه أضيف إلى معرب .
والإغناء : جعل الغير غنيا ، أي : غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته ، وإذا قيل : أغنى عنه كان معناه : أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها ، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام .
والمراد هنا لا يغني عنهم شيئا من العذاب المفهوم من إضافة يوم إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله " الذي فيه يصعقون " .
و " كيدهم " من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله أم يريدون كيدا ، أي : لا يستطيعون كيدا يومئذ كما كانوا في الدنيا .
فالمعنى : لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرئ القيس : على لاحب لا يهتدى بمناره ، أي : لا منارة له فيهتدى به .
وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم ، وعطف عليه [ ص: 82 ] ولا هم ينصرون لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية .