أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى .
أم لإضراب الانتقال إلى متعجب منه وإنكار عليه آخر وهو جهله بما عليه أن يعلمه الذين يخشون الله تعالى من علم ما جاء على ألسنة الرسل الأولين فإن كان هو لا يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فهلا تطلب ما أخبرت به رسل من قبل ، طالما ذكر هو وقومه أسماءهم وشرائعهم في الجملة ، وطالما سأل هو وقومه أهل الكتاب عن أخبار موسى ، فهلا سأل عما جاء عنهم في هذا الغرض الذي يسعى إليه وهو طلب النجاة من عذاب الله فينبئه العاملون ، فإن مآثر شريعة إبراهيم مأثور بعضها عند العرب ، وشريعة موسى معلومة عند اليهود . فالاستفهام المقدر بعد " أم " إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله أعنده علم الغيب والتقدير : بل ألم ينبأ بما في صحف موسى إلخ .
وصحف موسى : هي التوراة ، وصحف إبراهيم : صحف سجل فيها ما أوحى الله إليه ، وهي المذكورة في سورة الأعلى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى . وروى ابن حبان والحاكم عن أبي ذر أنه سأل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن الكتب التي أنزلت على الأنبياء فذكر له منها عشر صحائف أنزلت على إبراهيم ، ، أي : أنزل عليه ما هو مكتوب فيها .
وإنما خص هذه الصحف بالذكر ؛ لأن العرب يعرفون إبراهيم وشريعته [ ص: 130 ] ويسمونها الحنيفية وربما ادعى بعضهم أنه على إثارة منها مثل : زيد بن عمرو بن نفيل .
وأما صحف موسى فهي مشتهرة عند أهل الكتاب ، والعرب يخالطون اليهود في خيبر وقريظة والنضير وتيما ، ويخالطون نصارى نجران ، وقد قال الله تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى .
وتقديم صحف موسى لأنها اشتهرت بسعة ما فيها من الهدى والشريعة ، وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة . وقدرت بعشر صحف ، أي : مقدار عشر ورقات بالخط القديم ، تسع الورقة قرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع ما في صحف إبراهيم مقدار أربعين آية .
وإنما قدم في سورة الأعلى صحف إبراهيم على صحف موسى مراعاة لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى فقدم في الذكر أقدمهما .
وعندي أن تأخير صحف إبراهيم ليقع ما بعدها هنا جامعا لما احتوت عليه صحف إبراهيم فتكون صحف إبراهيم هي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم المذكورة في قوله في سورة البقرة وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، أي : بلغهن إلى قومه ومن آمن به ، ويكون قوله هنا الذي وفى وفي معنى قوله فأتمهن في سورة البقرة .
ووصف إبراهيم بذلك تسجيل على المشركين بأن إبراهيم بلغ ما أوحي إليه إلى قومه وذريته ولكن العرب أهملوا ذلك واعتاضوا عن الحنيفية بالإشراك .
وحذف متعلق وفى ليشمل توفيات كثيرة منها ما في قوله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن وما في قوله تعالى قد صدقت الرؤيا .
وقوله ألا تزر وازرة وزر أخرى يجوز أن يكون بدلا من " ما " في صحف موسى وإبراهيم بدل مفصل من مجمل ، فتكون " أن " مخففة من الثقيلة . والتقدير : أم لم ينبأ بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى .
ويجوز أن تكون " أن " تفسيرية فسرت ما في صحف موسى وإبراهيم ؛ لأن ما [ ص: 131 ] من الصحف شيء مكتوب والكتابة فيها معنى القول دون حروفه فصلح ما في صحف موسى ؛ لأن تفسره " أن " التفسيرية . وقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى هذا نذير من النذر الأولى في هذه السورة عن عن السدي أبي صالح قال : هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم إلى قوله هذا نذير من النذر الأولى كل هذه في صحف إبراهيم وموسى . و " تزر " مضارع وزر ، إذا فعل وزرا .
وتأنيث وازرة بتأويل : نفس ، وكذلك تأنيث أخرى ، ووقوع نفس و أخرى في سياق النفي يفيد العموم فيشمل نفي ما زعمه الوليد بن المغيرة من تحمل الرجل عنه عذاب الله .
وهذا مما كان في صحف إبراهيم ، ومنه ما حكى الله في قوله ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وحكي في التوراة عن إبراهيم أنه قال في شأن قوم لوط أفتهلك البار مع الآثم .
وأما نظيره في صحف موسى ففي التوراة لا يقتل الآباء عن الأولاد ، ولا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيئته يقتل . وحكى الله عن موسى قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا . وعموم لفظ " وزر " يقتضي اطراد الحكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة .
وأما قوله في التوراة أن الله قال : " أفتقد الأبناء بذنوب الآباء إلى الجيل الثالث " فذلك في ترتيب المسببات على الأسباب الدنيوية وهو تحذير .
وليس حمل المتسبب في وزر غيره حملا زائدا على وزره من قبيل تحمل وزر الغير ، ولكنه من قبيل زيادة العقاب لأجل تضليل الغير ، قال تعالى : [ ص: 132 ] ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم . وفي الحديث " ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، ذلك أنه أول من سن القتل " .