ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر عطف على جملة وكذبوا واتبعوا أهواءهم أي لهؤلاء ، أو أريد بالأنباء الحجج الواردة في القرآن ، أي جاءهم ما هو أشد في الحجة من انشقاق القمر . و جاءهم في القرآن من أنباء الأمم ما فيه مزدجر من الأنباء بيان ما فيه مزدجر قدم على المبين ومن بيانية .
والمزدجر : مصدر ميمي ، وهو مصاغ بصيغة اسم المفعول الذي فعله زائد على [ ص: 175 ] ثلاثة أحرف . وازدجره بمعنى زجره ، ومادة الافتعال فيه للمبالغة . والدال بدل من تاء الافتعال التي تبدل بعد الزاي إلا مثل ازداد ، أي ما فيه مانع لهم من ارتكاب ما ارتكبوه . والمعنى : ما هو زاجر لهم فجعل الازدجار مظروفا فيه مجازا للمبالغة في ملازمته له على طريقة التجريد كقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي هو أسوة .
و حكمة بالغة بدل من ( ما ) ، أي جاءهم حكمة بالغة .
والحكمة : إتقان الفهم وإصابة العقل . والمراد هنا الكلام الذي يتضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة ، فوصف الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال ، وتقدم في سورة البقرة ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
والبالغة : الواصلة ، أي : واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها .
وفرع عليه قوله فما تغني النذر ، أي جاءهم ما فيه مزدجر ، فلم يغن ذلك ، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم .
و ( ما ) تحتمل النفي ، أي لا تغني عنهم النذر بعد ذلك . وهذا تمهيد لقوله فتول عنهم ، فالمضارع للحال والاستقبال ، أي ما هي مغنية ، ويفيد بالفحوى أن تلك الأنباء لم تغن عنهم فيما مضى بطريق الأحرى ، لأنه إذا كان ما جاءهم من الأنباء لا يغني عنهم من الانزجار شيئا في الحال والاستقبال ، فهو لم يغن عنهم فيما مضى إذ لو أغنى عنهم لارتفع اللوم عليهم .
ويحتمل أن تكون ما استفهامية للإنكار ، أي : ماذا تفيد النذر في أمثالهم المكابرين المصرين ، أي لا غناء لهم في تلك الأنباء ، ف ( ما ) على هذا في محل نصب على المفعول المطلق لتغني ، وحذف ما أضيفت إليه ما . والتقدير : فأي غناء تغني النذر وهو المخبر بما يسوء ، فإن الأنباء تتضمن إرسال الرسل من الله منذرين لقومهم فما أغنوهم ولم ينتفعوا بهم ، ولأن الأنباء فيها الموعظة والتحذير من مثل صنيعهم فيكون . [ ص: 176 ] فالمراد بالنذر آيات القرآن ، جعلت كل آية كالنذير : وجمعت على نذر ، ويجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار اسم مصدر ، وتقدم عند قوله تعالى هذا نذير من النذر الأولى في آخر سورة النجم .