تقدم القول في موقع " إذ " في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة : ( إذ ) هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق بـ " اذكر " محذوفا ، ولا يجوز تعلقها بـ " اصطفى " : لأن هذا خاص بفضل آل عمران ، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم .
وامرأة عمران : حنة بنت فاقوذا . قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محررا أي مخلصا لخدمة بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا . وإطلاق المحرر على هذا المعنى إطلاق تشريف ؛ لأنه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى . قيل : إنها كانت تظنه ذكرا فصدر منها النذر مطلقا عن وصف الذكورة ، وإنما كانوا يقولون : إذا جاء ذكرا فهو محرر . وأنث الضمير في قوله : فلما وضعتها وهو عائد إلى ما في بطني باعتبار كونه انكشف ما صدقه على أنثى .
وقولها : إني وضعتها أنثى خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء .
وتأكيد الخبر بـ " إن " مراعاة لأصل الخبرية ، تحقيقا لكون المولود أنثى ; إذ هو بوقوعه على خلاف المترقب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد ، فلذا أكدته . ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمته على طريقة المجاز المركب المرسل ، ومعلوم أن المركب يكون مجازا بمجموعه لا [ ص: 233 ] بأجزائه ومفرداته ، وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني : وهي الروعة والكراهية لولادتها أنثى ، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم ، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطمينها بها ، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك ، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معان كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها .
وأنث الضمير في إني وضعتها أنثى باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها " أنثى " إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا فلذلك أنث الضمير باعتبار تلك الحال .
وقوله : والله أعلم بما وضعت جملة معترضة ، وقرأ الجمهور : وضعت - بسكون التاء - فيكون الضمير راجعا إلى امرأة عمران ، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي ، والمقصود منه : أن الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت ، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته ، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها ، وتعليم بأن . من فوض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقب تدبيره
وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بضم التاء ، على أنها ضمير المتكلمة امرأة عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي ، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، فيكون قرينة لفظية على أن الخبر مستعمل في التحسر .
وجملة وليس الذكر كالأنثى خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته من أن يكون المولود ذكرا ، فتحرره لخدمة بيت المقدس .
وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور ، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى .
وقيل : التعريف في وليس الذكر كالأنثى تعريف العهد للمعهود في نفسها . وجملة وليس الذكر تكملة للاعتراض المبدوء بقوله : والله أعلم بما وضعت والمعنى : وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيتها لو كانت تعلم علو شأن هاته الأنثى ، وجعلوا نفي المشابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل ، وإلى هذا مال صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح ، والأول أظهر .
[ ص: 234 ] ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفضيل في مثل هذا المقام ، وذلك في قول العرب : ليس سواء كذا وكذا ، وليس كذا مثل كذا ، ولا هو مثل كذا ، كقوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . وقوله : يا نساء النبيء لستن كأحد من النساء ، وقول السموأل :
فليس سواء عالم وجهول
، وقولهم : ( مرعى ولا كالسعدان ، وماء ولا كصدى ) .ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به ; إذ لم يبق للتشبيه أثر ، ولذلك قيل هنا : وليس الذكر كالأنثى ، ولو قيل : وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود . ولكن قدم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم . وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة ( غدوت قبل استقلال الركاب ، ولا اغتداء اغتداء الغراب ) وقال في الحادية عشرة : ( وضحكتم وقت الدفن ، ولا ضحككم ساعة الزفن ) وفي الرابعة عشرة : ( وقمت لله ولا ) . فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية . كعمرو بن عبيد
وقوله : وإني سميتها مريم الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أخت موسى وهارون ، وخولها ذلك أن أباها سمي أبي مريم أخت موسى .
وتكرر التأكيد في وإني سميتها و وإني أعيذها بك للتأكيد : لأن حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها ، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدر الله تعالى ، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة ، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء : لأن الخبر مستعمل في الإنشاء برمته التي كان عليها وقت الخبرية ، كما قدمناه في قوله تعالى : إني وضعتها أنثى وكقول أبي بكر : إني استخلفت عليكم . عمر بن الخطاب