وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة : صنف منهم أصحاب الميمنة ، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر . واليمين جهة عناية وكرامة في العرف ، واشتقت من اليمن ، أي البركة .
وصنف أصحاب المشأمة ، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم ، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع وقد سمي في الآية الآتية : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فجعل الشمال ضد اليمين كما جعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعارا بأن حالهم حال شؤم وسوء ، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من [ ص: 286 ] إطلاق هذين اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح ، وأصله جاء من الزجر والعيافة إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين في سورة الصافات ، وتقدم شيء منه عند قوله تعالى يطيروا بموسى ومن معه في سورة الأعراف ، وعند قوله تعالى قالوا إنا تطيرنا بكم في سورة يس .
ولذلك استغني هنا عن الإخبار عن كلا الفريقين بخبر فيه وصف بعض حاليهما بذكر ما هو إجمال لحاليهما مما يشعر به ما أضيف إليه أصحابه من لفظي الميمنة والمشأمة ، بطريقة الاستفهام المستعمل في التعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر ، ف ما في الموضعين اسم استفهام .
و أصحاب الميمنة و وأصحاب المشأمة خبران عن ما في الموضعين كقوله تعالى الحاقة ما الحاقة ، وقوله القارعة ما القارعة .
وإظهار لفظي أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة بعد الاستفهامين دون الإتيان بضميريهما . لأن مقام التعجب والتشهير يقتضي الإظهار بمقام قوله تعالى وما أدراك ما هيه .
وقوله والسابقون هذا الصنف الثالث في العد وهم الصنف الأفضل من الأصناف الثلاثة ، ووصفهم بالسبق يقتضي أنهم سابقون أمثالهم من المحسنين الذين عبر عنهم بأصحاب الميمنة فهم سابقون إلى الخير ، فالناس لا يتسابقون إلا لنوال نفيس مرغوب لكل الناس ، وأما الشر والضر فهم يتكعكعون عنه .
وحقيقة السبق : وصول أحد مكانا قبل وصول أحد آخر . وهو هنا مستعمل على سبيل الاستعارة ، وقد جمع المعنيين قول النابغة :
سبقت الرجال الباهشين إلى العلا كسبق الجواد اصطاد قبل الظوارد
فيجوز أن يكون السابقون مستعملا في المبادرة والإسراع إلى الخير في [ ص: 287 ] الدين كما في قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار في سورة براءة .ويجوز أن يكون مستعملا في المغالبة في تحصيل الخير كقوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون في سورة المؤمنين .
وقوله السابقون ثانيا يجوز جعله خبرا عن السابقون الأول كما أخبر عن أصحاب الميمنة بأنهم ما أصحاب الميمنة لأنه يدل على وصفهم بشيء لا يكتنه كنهه بحيث لا يفي به التعبير بعبارة غير تلك الصفة إذ هي أقصى ما يسعه التعبير ، فإذا أراد السامع أن يتصور صفاتهم فعليه أن يتدبر حالهم ، وهذا على طريقة قوله وأولئك هم المفلحون . ويجوز جعله تأكيدا للأول . فمآل جملة ما أصحاب الميمنة ونظيرتها وجملة والسابقون السابقون هو التعجب من حالهم وطريقه هو الكناية ولكن بين الكنايتين فرقا بأن إحداهما كانت من طريق السؤال عن الوصف ، والأخرى من طريق تعذر التعبير بغير ذلك الوصف .
والمعنى : أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة بحيث لا يجد المتكلم خبرا يخبر به عنهم أدل على مرتبتهم من اسم السابقون فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإخبار ب ما الاستفهامية التعجيبية في قوله ما أصحاب الميمنة ، وهذا مثل قول أبي الطمحان القيني :
وإني من القوم الذين همو همو إذا مات منهم سيد قام صاحبه
وحذف متعلق السابقون في الآية لقصد جعل وصف السابقون بمنزلة اللقب لهم ، وليفيد العموم ، أي أنهم سابقون في كل ميدان تتسابق إليه النفوس الزكية كقوله تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، فهؤلاء هم السابقون إلى الإيمان بالرسل وهم الذين صحبوا الرسل والأنبياء وتلقوا منهم شرائعهم ، وهذا الصنف يوجد في جميع العصور من القدم ، ومستمر في الأمم إلى الأمة المحمدية [ ص: 288 ] وليس صنفا قد انقضى وسبق الأمة المحمدية . وأخر السابقون في الذكر عن أصحاب اليمين لتشويق السامعين إلى معرفة صنفهم بعد أن ذكر الصنفان الآخران من الأصناف الثلاثة ترغيبا في الاقتداء وجملة أولئك المقربون في جنات النعيم ، مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب عما يثيره قوله والسابقون السابقون من تساؤل السامع عن أثر التنويه بهم .
وبذلك كان هذا ابتداء تفصيل لجزاء أصناف الثلاثة على طريقة النشر بعد اللف ، نشرا مشوشا تشويشا اقتضته مناسبة اتصال المعاني بالنسبة إلى كل صنف أقرب ذكرا ، ثم مراعاة الأهم بالنسبة إلى الصنفين الباقيين فكان بعض الكلام آخذا بحجز بعض .
والمقرب : أبلغ من الغريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء ، وذلك قرب مجازي ، أي شبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشئونه فإن المطيع لمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله ، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قربه الله ، أي عامله معاملة المقرب المحبوب ، كما جاء وكل هذه الأوصاف مجازية تقريبا لمعنى التقريب . ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه
ولم يذكر متعلق المقربون لظهور أنه مقرب من الله ، أي من عنايته وتفضيله ، وكذلك لم يذكر زمان التقريب ولا مكانه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة .
وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم سابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم في سورة البقرة .
[ ص: 289 ] وقوله في جنات النعيم خبر ثان عن أولئك المقربون أو حال منه .
وإيقاعه بعد وصف المقربون مشير إلى أن مضمونه من آثار التقريب المذكور .