نحن قدرنا بينكم الموت .
استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها [ ص: 315 ] ومشاهدونها ووادون دفعها أو تأخيرها ، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإحياء بعد الموت إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة على ضده فلا جرم أن القادر على خلق حي مما ليس فيه حياة وعلى إماتته بعد الحياة قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته ، وما الإحياء بعد الإماتة إلا حالة من تينك الحقيقتين ، فوضح دليل إمكان البعث ، وهذا مثل قوله تعالى وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون في سورة المؤمنين .
فهذا وجه التعبير ب قدرنا بينكم الموت دون : نحن نميتكم ، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد ، مع ما في مادة قدرنا من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طي ذلك من دقائق وهي كثيرة ، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إن أخذ لها أسبابها .
وفي كلمة ( بينكم ) معنى آخر ، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولا وتناوبا ، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عمر فآذن ظرف ( بين ) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحدهم متى يصيبه قسطه منه ، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه ، أو متى يطير إليه قطه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محالة .
وبهذا كان في قوله بينكم الموت استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم ورمز إلى المشبه به بكلمة ( بينكم ) الشائع استعمالها في القسمة ، قال تعالى أن الماء قسمة بينهم . وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس أما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق وأما في الآخرة فللجزاء الوفاق .
[ ص: 316 ] وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوي الحكم وتحقيقه ، والتحقيق راجع إلى ما اشتمل عليه التركيب من فعل ( قدرنا ) وظرف ( بينكم ) في دلالتهما على ما في خلق الموت من الحكمة التي أشرنا إليها .
وقرأ الجمهور قدرنا بتشديد الدال . وقرأه ابن كثير بالتخفيف وهما بمعنى واحد ، فالتشديد مصدره التقدير ، والتخفيف مصدره القدر .