قد علم من صدر تفسير هذه السورة أن هذه الآية نزلت بمكة سنة أربع أو خمس [ ص: 390 ] من البعثة رواه مسلم وغيره عن أنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية عبد الله بن مسعود ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلى وكثير منهم فاسقون إلا أربع سنين .
والمقصود من الذين آمنوا : إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذ بمكة فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن وأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعريض مثل قوله وقوله تعالى ما بال أقوام يفعلون كذا وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . وليس ما قاله مقتضيا أن مثله من أولئك الذين ذكرهم الله بهذه الآية ولكنه يخشى منهم حذرا وحيطة . ابن مسعود
فالمراد بالذين آمنوا المؤمنون حقا من يظهرون الإيمان من المنافقين إذ لم يكن في المسلمين بمكة منافقون ولا كان داع إلى نفاق بعضهم . وعن لما نزلت جعل بعضنا ينظر إلى بعض ويقول : ما أحدثنا . ابن مسعود
وإما أن يكون تحريضا للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذر من التقصير .
والهمزة في " ألم يأن " للاستفهام وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي : إنكار نفي اقتراب وقت فاعل الفعل .
ويجوز أن يكون الاستفهام للتقرير على النفي ، وفعل " يأن " مشتق من اسم جامد وهو الإنى بفتح الهمزة وكسرها ، أي : الوقت قال تعالى غير ناظرين إناه . وقريب من قوله " ألم يأن " قولهم : أما آن لك أن تفعل ، مثل ما ورد في حديث عمر بن الخطاب من قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - له : إسلام أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم . وفي خبر أبي ذر من أن إسلام وجده في علي بن أبي طالب المسجد الحرام وأراد أن يضيفه وقال له أما آن للرجل أن يعرف منزله يريد : أن يعرف منزلي الذي هو كمنزله . وهذا تلطف في عرض الاستضافة ، إلا أن فعل " يأن " مشتق من الإنى وهو فعل منقوص آخره ألف . وفعل : آن مشتق من الأين وهو الحين وهو فعل أجوف آخره نون .
[ ص: 391 ] فأصل : أنى أني ، وأصل آن : آون وآل معنى الكلمتين واحد .
واللام للعلة ، أي : ألم يأن لأجل الذين آمنوا الخشوع ، أي : ألم يحق حضوره لأجلهم .
و " أن تخشع " فاعل " يأن " ، والخشوع : الاستكانة والتذلل .
و " ذكر الله " ما يذكرهم به النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو هو الصلاة . وما نزل من الحق القرآن ، قال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم .
ويجوز أن يكون الوصفان للقرآن تشريفا له بأنه ذكر الله وتعريفا لنفعه بأنه نزل من عند الله ، وأنه الحق ، فيكون قوله وما نزل من الحق عطف وصف آخر للقرآن مثل قول الشاعر أنشده في الكشاف :
إلى الملك القرم وابن الهمام
. . . . . . . . . . البيتواللام في " لذكر الله " لام العلة ، أي : لأجل ذكر الله .
ومعنى الخشوع لأجله : الخشوع المسبب على سماعه وهو الطاعة والامتثال .
نافع ، وحفص عن عاصم " وما نزل " بتخفيف الزاي . وقرأ أي : الله . وقرأه الباقون بتشديد الزاي على أن فاعل " نزل " معلوم من المقام ،
و " لا يكونوا " قرأه الجمهور بياء الغائب ، وقرأه رويس عن يعقوب ( ولا تكونوا ) بتاء الخطاب .
و ( لا ) نافية على قراءة الجمهور والفعل معمول ل " أن " المصدرية التي ذكرت قبله ، والتقدير : ألم يأن لهم أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب . وعلى قراءة رويس عن يعقوب فتاء الخطاب الالتفات و ( لا ) نافية ، والفعل منصوب بالعطف كقراءة الجمهور ، أو ( لا ) ناهية والفعل مجزوم والعطف من عطف الجمل .
والمقصود التحذير إلا أنهم تلبسوا بذلك ولم يأن لهم الإقلاع عنه . والتحذير [ ص: 392 ] منصب إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم ، أي : فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين . وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم لأن طول الأمد لا يكون سببا في التفريط فيما أطال فيه الأمد بل الأمر بالعكس ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد ، وإنما المقصود النهي عن التشبيه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم ولكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب . ويستتبع ذلك الأنباء بأن مدة المسلمين تطول قريبا أو أكثر من مدة أهل الكتاب الذين كانوا قبل البعثة ، فإن القرآن موعظة للعصور والأجيال .
ويجوز أن تجعل ( لا ) حرف نهي ، وتعلق النهي بالغائب التفاتا أو المراد : أبلغهم أن لا يكونوا .
وفاء فطال عليهم الأمد لتفريع طول الأمد على قسوة القلوب من عدم الخشوع ، فهذا التفريع خارج عن التشبيه الذي في قوله كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، ولكنه تنبيه على عاقبة ذلك التشبيه تحذيرا من أن يصيبهم مثل ما أصاب الذين أوتوا الكتاب من قبل .
والأمد : الغاية من مكان أو زمان والمراد به هنا : المدة التي أوصوا بأن يحافظوا على اتباع شرائعهم فيها المغياة بمجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبشر في الشرائع وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .
والمعنى : أنهم نسوا ما أوصوا به فخالفوا أحكام شرائعهم ولم يخافوا عقاب الله يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا ، وصار ديدنا لهم رويدا رويدا حتى ضرئوا بذلك ، فقست قلوبهم ، أي : تمردت على الاجتراء على تغيير أحكام الدين .
وجملة وكثير منهم فاسقون اعتراض في آخر الكلام .
والمعنى : أن كثيرا منهم تجاوزوا ذلك الحد من قسوة القلوب فنبذوا دينهم [ ص: 393 ] وبدلوا كتابهم وحرفوه وأفسدوا عقائدهم فبلغوا حد الكفر . فالفسق هنا مراد به الكفر كقوله تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ، أي : غير مؤمنين بدليل المقابلة بقوله آمنا بالله إلى آخره .
وبين قوله " فقست " وقوله " فاسقون " محسن الجناس . وهذا النوع فيه مركب مما يسمى جناس القلب وما يسمى الجناس الناقص وقد اجتمعا في هذه الآية .