ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته .
الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما وقع يا أيها الذين آمنوا هنا عقب قوله فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، أي : من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، احتمل قوله يا أيها الذين آمنوا أن يكون مستعملا استعماله اللقبي أعني : كونه كالعلم بالغلبة على مؤمني ملة الإسلام . واحتمل أن يكون قد استعمل استعماله اللغوي الأعم ، أعني : من حصل منه إيمان ، وهو هنا من آمن بعيسى . والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودان ليأخذ خلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجها إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى ، أي : يا أيها الذين آمنوا إيمانا خالصا بشريعة عيسى اتقوا الله واخشوا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإطلاق اللقبي فيأخذ منه المؤمنون أهل الملة الإسلامية بشارة بأنهم لا يقل أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مللهم ، ويكون قوله " وآمنوا " مستعملا في الدوام على الإيمان كقوله يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله في سورة النساء ، ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتمال قصدا لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يردف عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن .
ومعنى : أن لهم مثل [ ص: 428 ] أجري من آمن من أهل الكتاب . ويشرح هذا حديث إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صحيح أبي موسى الأشعري الذي فيه البخاري واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له ، فعملت اليهود إلى نصف النهار ، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين ، قال فيه : واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، أي : استكملوا مثل أجر الفريقين أي : أخذوا ضعف كل فريق . مثل المسلمين
وتقوى الله تتعلق بالأعمال وبالاعتقاد ، وبعلم الشريعة وقد استدل أصحابنا على وجوب الاجتهاد للمتأهل إليه بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم .
وقوله أمر لهم بما هو وسيلة ومقدمة للمقصود وهو الأمر بقوله " اتقوا الله " وآمنوا برسوله .
ورتب على هذا الأمر ما هو جواب شرط محذوف وهو جملة يؤتكم كفلين إلخ ، المجزوم في جواب الأمر ، أي : يؤتكم جزاء في الآخرة وجزاء في الدنيا ، فجزاء الآخرة قوله يؤتكم كفلين من رحمته وقوله " ويغفر لكم " ، وجزاء الدنيا قوله ويجعل لكم نورا تمشون به .
والكفل : بكسر الكاف وسكون الفاء : النصيب . وأصله : الأجر المضاعف ، وهو معرب من الحبشية كما قال أي : يؤتكم أجرين عظيمين ، وكل أجر منهما هو ضعف الآخر مماثل له فلذلك ثني كفلين كما يقال : زوج ، لأحد المتقاربين ، هذا مثل قوله تعالى أبو موسى الأشعري ، ربنا آتهم ضعفين من العذاب وقوله يضاعف لها العذاب ضعفين . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الحديث . ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، واتبعني ، وصدقني فله أجران
ويتعلق " من رحمته " بـ " يؤتكم " ، و ( من ) ابتدائية مجازية ، أي : ذلك من رحمة الله بكم ، وهذا في جانب النصارى معناه لإيمانهم بمحمد وإيمانهم بعيسى ، أي من فضل الله وإكرامه وإلا فإن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واجب عليهم [ ص: 429 ] كإيمانهم بعيسى وهو متمم للإيمان بعيسى وإنما ضوعف أجرهم لما في النفوس من التعلق بما تدين به فيعسر عليها تركه ، وأما في جانب المسلمين فهو إكرام لهم لئلا يفوقهم بعض من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من النصارى .
ويجوز أن يكون " من رحمته " صفة ل " كفلين " وتكون ( من ) بيانية ، والكلام على حذف مضاف ، تقديره : وهو ثواب الجنة ونعيمها .
وقوله ويجعل لكم نورا تمشون به تمثيل لحال القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نورا يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه . والمعنى : ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به ، والباء للاستعانة مثل كتبت بالقلم .
والمعنى : وييسر لكم دلالة تهتدون بها إلى الحق .
وجميع أجزاء هذا التمثيل صالحة لتكون استعارات منفردة ، وهذا أبلغ أحوال التمثيل ، وقد عرف بالقرآن تشبيه الهدى بالنور ، والضلال بالظلمة ، والبرهان بالطريق ، وإعمال النظر بالمشي ، وشاع ذلك بعد القرآن في كلام أدباء العربية .
والمغفرة : جزاء على امتثالهم ما أمروا به ، أي : يغفر لكم ما فرط منكم من الكفر والضلال .