استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى أحصاه الله ونسوه إلى ذكر وأحلافهم علم الله بأحوال المنافقين اليهود . فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضا ليري للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض ، فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة ، وهم وإن كانوا يظهرون الإسلام يحبون أن تكون لهم هيبة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنم بنفاقه ، فلا يقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه . وكانوا إذا مر بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارون لعل حدثا حدث من مصيبة ، وكان المسلمون يومئذ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدو أو عن هزيمة للمسلمين في السرايا التي يخرجون فيها ، فنزلت هذه الآيات لإشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون ، وأنه مطلع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على دخيلتهم ليكفوا عن الكيد للمسلمين .
[ ص: 26 ] فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى الآية .
و " ألم تر " من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يرى وسد المصدر مسد المفعول . والتقدير : ألم تر الله عالما .
و ما في السماوات وما في الأرض يعم المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله والله على كل شيء شهيد لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات .
وجملة ما يكون من نجوى ثلاثة إلى آخرها بدل البعض من الكل ، فإن معنى قوله إلا هو رابعهم . وقوله إلا هو سادسهم وقوله إلا هو معهم ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجي معهم .
و " ما " نافية . و " يكون " مضارع ( كان ) التامة ، و " من " زائدة في النفي لقصد العموم ، و " نجوى " في معنى فاعل " يكون " .
وقرأ الجمهور " يكون " بياء الغائب لأن تأنيث نجوى غير حقيقي ، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف من الزائدة . وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعيا لصورة تأنيث لفظه .
والنجوى : اسم مصدر ناجاه ، إذا ساره . و " ثلاثة " مضاف إليه " نجوى " . أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم ، ولا خمسة إلا كسادس لهم ، ولا أدنى ولا أكثر إلا هو كواحد منهم . وضمائر الغيبة عائدة إلى " ثلاثة " وإلى " خمسة " وإلى " ذلك " و " أكثر " .
والمقصود من هذا الخبر الإنذار والوعيد .
وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذين نزلت الآية بسببهم كانوا حلفا بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة . وقال الفراء : المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود .
وفي الكشاف عن نزلت في ابن عباس ربيعة ، وحبيب ابني عمرو بن عمير من [ ص: 27 ] ثقيف وصفوان بن أمية السلمي حليف بني أسد كانوا يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا . وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله . اهـ . ولم أر هذا في غير الكشاف ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدوا في الصحابة وكأن هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم في سورة فصلت . كما في صحيح وبين هذه الآية . وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا البخاري بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى فإنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن . ابن عباس
والاستثناء في إلا هو رابعهم إلا هو سادسهم إلا هو معهم مفرع من أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى " ما يكون " والجمل التي بعد حرف استثناء في مواضع أحوال . والتقدير : ما يكون في نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم .
وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء .
وقرأ الجمهور " ولا أكثر " بنصب أكثر عطفا على لفظ نجوى . وقرأه يعقوب بالرفع عطفا على محل نجوى لأنه مجرور بحرف جر زائد . و " أينما " مركب من " أين " التي هي ظرف مكان و " ما " الزائدة . وأضيف أين إلى جملة كانوا ، أي في أي مكان كانوا فيه ، ونظيره قوله وهو معكم أين ما كنتم في سورة الحديد .
وثم للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة .
وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم .
[ ص: 28 ] وجملة إن الله بكل شيء عليم تذييل لجملة ثم ينبئهم بما عملوا فأغنت إن غناء فاء السببية كقول بشار :
إن ذاك النجاح في التبكير
وتأكيد الجملة بـ إن للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك . وهذا التعريض بالوعيد يدل على أن النهي عن التناجي كان سابقا على نزول هذه الآية والآيات بعدها .