استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين ، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم ، وزعم كل فريق منهم أنهم على دينه توصلا إلى أن الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدعي النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى . وهذه المحاجة عن طريق قياس المساواة في النفي ، أو محاجتهم النبيء في دعواه أنه على دين إبراهيم - محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم ، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا .
فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا أي قل لهم : يا أهل الكتاب لم تحاجون . ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول تعالوا ، فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة ، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه ؛ لأن الأولى من شئون الدعوة ، وهذه من طرق المحاجة ، وإبطال قولهم ، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة . والكل في النسبة إلى الله سواء .
ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة وبعدها أن الإسلام الذي جاء به محمد - عليه السلام - يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة ، وكما في سورة النحل ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وسيجيء أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة ، وبين اليهود في المدينة ، وبين النصارى في وفد نجران ، وقد علم أن المشركين بمكة كانوا يدعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته ، وكان أهل الكتاب قد ادعوا أنهم [ ص: 271 ] على دين إبراهيم ، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظوا لتقليده في ذلك ، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأن دينه الحق ، وأن الدين عند الله الإسلام فألجأوه إلى أحد أمرين : إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتباعه ، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية ، وإما أن تكون مخرجة عن دينإبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم .
وأحسب أن ادعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبث كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب ، ولاسيما النصرانية ; فإن دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا : إنها ملة إبراهيم ، ومن أجل ذلك اتبعت في بعض قبائل العرب ، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات : فروي أن نجران قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى اتباع دينه : على أي دين أنت ؟ قال : على ملة وفد إبراهيم قالوا : فقد زدت فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله . وروي : أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة ، عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فادعى كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم ، من يهود ونصارى .
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب .
وقوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم : فقد زدت فيه ما ليس منه ، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم . وتفصيل هذا المنع : إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم ، فمن أين لكم أن الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم ، فإنكم لا مستند لكم في عملكم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل ، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم ، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها ، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل . ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كل فريق منهما أنه على دين إبراهيم ; بأن دين اليهود هو التوراة ، ودين النصارى هو الإنجيل ، وكلاهما نزل [ ص: 272 ] بعد إبراهيم ، فكيف يكون شريعة له . قال الفخر : يعني ولم يصرح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم ، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف : لأن أهل الكتاب شمل الفريقين ، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود ، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى ، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة ، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مساق الكلام معهم .
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده وقوله : فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون فيبطل بذلك إبراهيم ، ودعواهم أن الإسلام ليس على دين دعواهم أنهم على دين إبراهيم ، ويثبت عليهم أن الإسلام على دين إبراهيم : وذلك أن قوله وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده يدل على أن علمهم في الدين منحصر فيهما ، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم .
وقوله فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم يبطل قولهم : إن الإسلام زاد على دين إبراهيم ، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم ; لأن التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك ، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه ، فلا يقولون وكيف يدعى أن الإسلام دين إبراهيم مع أن القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده .
وقوله والله يعلم يدل على أن الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك ، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك ، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية ، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة ، فنهضت الحجة عليهم ، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا : إن مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم ; فإن القرآن أنزل بعد إبراهيم ، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام .
والاستفهام في قوله فلم تحاجون مقصود منه التنبيه على الغلط .
[ ص: 273 ] وقد أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدين الذي جاء به إبراهيم ، وبين وصف الإسلام بأنه ملة إبراهيم : لأنهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع ، واتحاد الأصول ، وأن مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى : فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله وعند قوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا فاكتفي في المحاجة بإبطال مستندهم في قولهم : فقد زدت فيه ما ليس فيه ، على طريقة المنع ، ثم بقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما على طريقة الدعوى بناء على أن انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل .
وقوله : هأنتم هؤلاء حاججتم تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم في سورة البقرة .
وقرأ الجمهور : هاأنتم بإثبات ألف ها وبتخفيف همزة أنتم ، وقرأه ، قالون وأبو عمرو ، ويعقوب بإثبات الألف وتسهيل همزة " أنتم " وقرأه بحذف ألف " ها " وبتسهيل همزة " أنتم " وبإبدالها ألفا أيضا مع المد ، وقرأه ورش بتخفيف الهمزة دون ألف . قنبل
ووقعت " ما " الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسئول عنه هو سبب المحاجة فما صدق " ما " علة من العلل مجهولة ، أي سبب المحاجة مجهول ; لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له ، فلا يعلم ، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه ، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري ، وليس عينه .
وحذفت ألف " ما " الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو عم يتساءلون وقول ابن معد يكرب :
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء . إذا جر بواحد من تلك الحروف ( ما ) هذه يكتبون الألفات على صورة الألف : لأن " ما " صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات .[ ص: 274 ] وقوله : في إبراهيم معناه في شيء من أحواله ، وظاهر أن المراد بذلك هنا دينه ، فهذا من تعليق الحكم بالذات ، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدم في تفسير قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة في سورة البقرة .
و ( ها ) من قوله هأنتم تنبيه ، وأصل الكلام أنتم حاججتم ، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والتنكير والتنبيه ونحو ذلك ، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده ، فيقال هأنذا ، و هأنتم أولاء أو هؤلاء .
وحاججتم خبر ( أنتم ) ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله : فلم تحاجون : لأن الاستفهام فيه إنكاري ، فمعناه : فلا تحاجون .
وسيأتي بيان مثله في قوله تعالى : هأنتم أولاء تحبونهم .
وقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون تكميل للحجة أي أن القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم ، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون ، وهذا كقوله في سورة البقرة : أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله .