ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم .
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم ، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارف في الأموال فلا يصدكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات ، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حد العدل المأمور به ، ولا حب المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال . فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك .
والخطاب للمؤمنين .
وحذف متعلق ( اتقوا ) لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله .
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصا على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله ( ما استطعتم ) .
وما مصدرية ظرفية ، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال [ ص: 288 ] تبعا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات ، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان . وجعلت الأزمان ظرفا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حد الاستطاعة إلى حد المشقة قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
فليس في قوله ما استطعتم تخفيف ولا تشديد ولكنه عدل . وإنصاف . ففيه ما عليهم وفيه ما لهم .
روى عن البخاري قال : جابر بن عبد الله ، وعن بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فلقنني : فيما استطعت ابن عمر . كنا إذا بايعنا النبيء - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة يقول لنا فيما استطعت
وعطف ( واسمعوا وأطيعوا ) على اتقوا الله من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقى . فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه ، ولما كان ترك المأمورات فيئول إلى إتيان المنهيات ، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده . كان التصريح به بخصوصه اهتماما بكلا الأمرين لتحصل وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات . حقيقة التقوى الشرعية
والمراد : اسمعوا الله ، أي أطيعوا بالسمع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته .
والأمر بالسمع أمر يتلقى الشريعة والإقبال على سماع مواعظ النبيء - صلى الله عليه وسلم - وذلك وسيلة التقوى قال تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
وعطف عليه ( وأطيعوا ) : أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي .
وعطف ( وأنفقوا ) تخصيص بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات .
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإنفاق والمندوب ففيه التحريض على الإنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة من فتنة المال التي ذكرت في قوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة .
[ ص: 289 ] وانتصب ( خيرا ) على الصفة لمصدر محذوف دل عليه ( أنفقوا ) . والتقدير : إنفاقا خيرا لأنفسكم . هذا قول الكسائي فيكون خير اسم تفضيل . وأصله : أخير ، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال ، أي الإنفاق خير لكم من الإمساك . وعن والفراء أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه ( أنفقوا ) . والتقدير : ائتوا خيرا لأنفسكم . سيبويه
وجملة ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) تذييل .
و ( من ) اسم شرط وهي من صيغ العموم : أي كل من يوق شح نفسه ، والعموم يدل على أن ( من ) مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة ، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإقلال من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح .
والمعنى : أن فإذا يسر على المرء الإنفاق فيما أمر الله به فقد وقي شح نفسه وذلك من الفلاح . الإنفاق يقي صاحبه من الشح المنهي عنه
ولما كان ذلك فلاحا عظيما جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند ، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وقوا شح أنفسهم ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقوا شح أنفسهم نزل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم .
وإضافة ( شح ) إلى النفس للإشارة إلى أن فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى الشح من طباع النفس وأحضرت الأنفس الشح .
وفي الحديث لما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الصدقة قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى . وأن لا تدع حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وتقدم نظير ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون في سورة الحشر .