ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان .
وفعل تبارك يدل على المبالغة في وفرة الخير ، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة ، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى .
وصيغة ( تفاعل ) إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو : تطاول وتغابن ، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل : تواصل الحبل .
وهو مشتق من البركة ، وهي زيادة الخير ووفرته ، وتقدمت البركة عند قوله تعالى وبركات عليك في سورة هود .
وتقدم ( تبارك ) عند قوله تعالى تبارك الله رب العالمين في أول الأعراف .
وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله . ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله ، أثناه على نفسه ، وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في الحمد لله رب العالمين : إما على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء ، وإما باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها ، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هذين المعنيين ، وقد تقدم في قوله تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده .
وجعل المسند إليه اسما موصولا للإيذان بأن معنى الصلة ، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به ؛ إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلا لله .
[ ص: 10 ] وذكر الذي بيده الملك هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده إلى قوله الذي له ملك السماوات والأرض .
والباء في بيده يجوز أن تكون بمعنى في ، مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو ولقد نصركم الله ببدر وقول امرئ القيس :
بسقط اللوى
، فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة الملك ، الملك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها ملكا .والتعريف في الملك على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس ، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه .
واليد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى والسماء بنيناها بأيد وقول العرب : ما لي بهذا الأمر يدان .
ويجوز أن تكون الباء للسببية ، ويكون الملك اسما فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم .
وتقديم المسند وهو بيده على المسند إليه لإفادة الاختصاص ، أي الملك بيده لا بيد غيره .
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بملك غيره ، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد ؛ لأن كل ذلك ملك غير تام ؛ لأنه لا يعم المملوكات كلها ، ولأنه معرض للزوال ، وملك الله هو الملك الحقيقي ، قال فتعالى الله الملك الحق .
فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون .
واليد : تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد; بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات .
[ ص: 11 ] وفي معنى هذه الآية قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء في سورة آل عمران .
والملك بضم الميم : اسم لأكمل أحوال الملك بكسر الميم ، والملك بالكسر جنس للملك بالضم ، وفسر الملك المضموم بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم ، وهو تفسير قاصر . وأرى أن يفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفا كاملا بتدبير ورعاية ، فكل ملك بالضم ملك بالكسر ، وليس كل ملك ملكا .
وقد تقدم في قوله ملك يوم الدين في الفاتحة وعند قوله أنى يكون له الملك علينا في سورة البقرة . وجملة وهو على كل شيء قدير معطوفة على جملة بيده الملك التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة ؛ إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات ، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات ، فيكون قوله وهو على كل شيء قدير مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله بيده الملك تفاديا من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى بيده الملك ، وتكون هذه الجملة تتميما للصلة . وفي معنى صلة ثانية ثم عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله الذي خلق الموت وقوله الذي خلق سبع سماوات .
وشيء : ما يصح أن يعلم ويخبر عنه . وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة . وقد يطلق ( الشيء ) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات . وأما التزام الأشاعرة : أن الشيء لا يطلق إلا على الموجود فهو التزام ما لا يلزم ، دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود ، فتفرعت عليه مسألة : أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلا على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها ، والخلاف فيها لفظي ، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة .
وتقديم المجرور في قوله على كل شيء قدير للاهتمام بما فيه من التعميم ، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنه لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة .