تفريع على ما تضمنه قوله فما للذين كفروا قبلك مهطعين من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم : إننا ندخل الجنة ، الاستهزاء بالقرآن والنبيء - صلى الله عليه وسلم - . وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعلم بأنهم لم يجد فيهم الهدي والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة .
ومعنى الأمر بالترك في قوله فذرهم أنه أمر بترك ما أهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإعراض بقوله يخوضوا ويلعبوا .
فجملة يخوضوا وجملة ويلعبوا حالان من الضمير الظاهر في قوله فذرهم . وتلك الحال قيد للأمر في قوله فذرهم . والتقدير : فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم .
وتعدية فعل ( ذر ) إلى ضمير هم من قبيل توجه الفعل إلى الذات . والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل ، مثل قوله تعالى حرمت عليكم الميتة أي : حرم عليكم أكلها ، وقوله وأن تجمعوا بين الأختين أي : أن تجمعوهما معا في عصمة نكاح ، والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين ، وقوله تعالى فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون في سورة الطور ، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله يخوضوا ويلعبوا في هذه الآية ، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى [ ص: 182 ] إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إذ التقدير : فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام .
وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان ، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعده جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية .
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تلهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل :
ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي : لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .وبهذا تعلم أن قوله تعالى فذرهم لا علاقة له بحكم القتال ، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين .
والخوض : الكلام الكثير ، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .
واللعب : الهزل والهزء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجد في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا .
وجزم يخوضوا ويلعبوا في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم ، إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر : أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا ، أي : يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك ، ومثل هذا الجزم كثير نحو قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ونحو وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيد نكتة المبالغة .
[ ص: 183 ] و ( حتى ) متعلقة بـ ذرهم لما فيه من معنى أمهلهم وانتظرهم ، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازون على استهزائهم وكفرهم ، فلا يكون غاية لـ يخوضوا ويلعبوا والغاية هنا كناية عن دوام تركهم .
وإضافة ( يوم ) إلى ضمير هم لأدنى ملابسة .
وقرأ الجمهور يلاقوا بألف بعد اللام من الملاقاة . وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء .
واللقاء : مجاز على كل تقدير : فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين ؛ لأن اليوم لا يلقى ولا يلقى . وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة ؛ لأن اللقاء إنما يقع بين الذوات .
و يوم يخرجون من الأجداث بدل من ( يومهم ) ليس ظرفا .
والخروج : بروز أجسادهم من الأرض .
وقرأ الجمهور ( يخرجون ) بفتح التحتية على البناء للفاعل . وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول .
والأجداث : جمع جدث ، بفتحتين ، وهو القبر ، والقبر : حفير يجعل لمواراة الميت .
وضمير ( يخرجون ) عائد إلى المشركين المخبر عنهم بالأخبار السابقة . وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر .
والنصب بفتح فسكون : الصنم ، ويقال : نصب بضمتين ، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة ، قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
[ ص: 184 ] وقرأ الجمهور ( نصب ) بفتح النون وسكون الصاد . وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد .
وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل ، كما قال تعالى ( ينظرون من طرف خفي ) وقال خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . وأصل الخشوع : ظهور الطاعة أو المخافة على الإنسان .
والرهق : الغشيان ، أي : التغطية بساتر ، وهو استعارة هنا ؛ لأن الذلة لا تغشى .
وجملة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون فذلكة لما تضمنته السورة في أول أغراضها من قوله ( بعذاب واقع ) إلى قوله ( في يوم كان مقداره ) الآيات ، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون . وفيها محسن رد العجز على الصدر .