ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين     . 
حكم أعقب به الامتنان : لما في هذا الحكم من التنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه . والتقدير : مباركا ، وهدى ، وواجبا حجه . فهو عطف على الأحوال . 
والحج تقدم عند قوله تعالى الحج أشهر معلومات  في سورة البقرة ، وفيه لغتان - فتح الحاء وكسرها - ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن - بكسر الحاء - إلا في هذه الآية : قرأ حمزة ،   والكسائي ،  وحفص  عن عاصم ،  وأبو جعفر    - بكسر الحاء - . 
ويتجه أن تكون هذه الآية هي التي فرض بها الحج على المسلمين ، وقد استدل بها علماؤنا على فرضية الحج ، فما كان يقع من حج النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، قبل نزولها ، فإنما كان تقربا إلى الله ، واستصحابا للحنفية . وقد ثبت أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - حج مرتين بمكة  قبل الهجرة ووقف مع الناس ، فأما إيجاب الحج في الشريعة الإسلامية فلا دليل على وقوعه إلا هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحج ، فلا يعد ما وقع من الحج قبل نزولها ، وبعد البعثة إلا تحنثا وتقربا ، وقد صح أنها نزلت سنة ثلاث من الهجرة ، عقب غزوة أحد ، فيكون الحج فرض يومئذ . وذكر القرطبي  الاختلاف في وقت فرضية الحج على ثلاثة أقوال : فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها ، سوى أنه ذكر عن ابن هشام  ، عن أبي عبيد الواقدي  أنه فرض   [ ص: 22 ] عام الخندق  ، بعد انصراف الأحزاب ، وكان انصرافهم آخر سنة خمس . قال  ابن إسحاق    : وولي تلك الحجة المشركون . وفي مقدمات ابن رشد  ما يقتضي أن  الشافعي  يقول : إن الحج وجب سنة تسع ، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أن دليل وجوب الحج قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    . وقد استدل  الشافعي  بها على أن وجوبه على التراخي ، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرر سنة ثلاث ، وأصبح المسلمون منذ يومئذ محصرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكة  ووقعت حجة سنة تسع . 
وفي هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتان : لام الاستحقاق ، وحرف على الدال على تقرر حق في ذمة المجرور بها . وقد تعسر أو تعذر قيام المسلمين بأداء الحج عقب نزولها ، لأن المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك ، فلعل حكمة إيجاب الحج يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحج مهما تمكنوا من ذلك ، ولتقوم الحجة على المشركين بأنهم يمنعون هذه العبادة ، ويصدون عن المسجد الحرام ،  ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه . 
وقوله من استطاع إليه سبيلا  بدل من الناس لتقييد حال الوجوب ، وجوز  الكسائي  أن يكون فاعل حج ، ورد بأنه يصير الكلام : لله على سائر الناس أن يحج المستطيع منهم ، ولا معنى لتكليف جميع الناس بفعل بعضهم ، والحق أن هذا الرد لا يتجه لأن العرب تتفنن في الكلام لعلم السامع بأن فرض ذلك على الناس فرض مجمل يبينه فاعل حج ، وليس هو كقولك : استطاع الصوم ، أو استطاع حمل الثقل ، ومعنى استطاع سبيلا وجد سبيلا وتمكن منه ، والكلام بأواخره . والسبيل هنا مجاز فيما يتمكن به المكلف من الحج . 
وللعلماء في تفسير السبيل في قوله تعالى ( من استطاع إليه سبيلا    ) أقوال اختلفت ألفاظها ، واتحدت أغراضها ، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التفسير وغيرها ، فسبيل القريب من البيت الحرام  سهل جدا ، وسبيل البعيد الراحلة والزاد ، ولذلك قال مالك    : السبيل القدرة والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم . واختلف فيمن   [ ص: 23 ] لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه : فقال مالك    : إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه ، وقال بمثله ابن الزبير ،   والشعبي ،  وعكرمة    . وعن مالك  كراهية السفر في البحر للحج إلا لمن لا يجد طريقا غيره كأهل الأندلس  ، واحتج بأن الله تعالى قال يأتوك رجالا وعلى كل ضامر  ولم أجد للبحر ذكرا . قال الشيخ ابن عطية    : هذا تأنيس من مالك  وليست الآية بالتي تقتضي سقوط سفر البحر . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر وهل الجهاد إلا عبادة كالحج ، وكره مالك  للمرأة السفر في البحر لأنه كشفة لها ، وكل هذا إذا كانت السلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة ، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البر إلا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار . 
وظاهر قوله تعالى من استطاع إليه سبيلا  أن الخطاب بالحج والاستطاعة للمرء في عمله لا في عمل غيره ، ولذلك قال مالك    : لا تصح النيابة في الحج  في الحياة لعذر ، فالعاجز يسقط عنه الحج عنده ولم ير فيه إلا أن للرجل أن يوصي بأن يحج عنه بعد موته حج التطوع ، إذا أوصى به الرجل بعد موته وقال  الشافعي ،  وأحمد ،   وإسحاق بن راهويه    : إذا كان له عذر مانع من الحج وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحج عنه ، أو كان له مال يستأجر به من يحج عنه ، صار قادرا في الجملة ، فيلزمه الحج ، واحتج بحديث  ابن عباس    : أن امرأة من خثعم  سألت النبيء - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع فقالت : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه ؟ قال : نعم ، حجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى   . وأجاب عنه المالكية بأن الحديث لم يدل على الوجوب بل أجابها بما فيه حث على طاعة أبيها ، وطاعة ربها . 
قال  علي بن أبي طالب ،   وسفيان الثوري ،  وأبو حنيفة ،   وابن المبارك    . لا تجزئ إلا إنابة دون إنابة الطاعة . 
 [ ص: 24 ] وظاهر الآية أنه إذا تحققت الاستطاعة وجب الحج على المستطيع على الفور ، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاء الأمر الفور أو عدم اقتضائه إياه ، وقد اختلف علماء الإسلام في أن الحج واجب على الفور أو على التراخي    . فذهب إلى أنه على الفور البغداديون  من المالكية : ابن القصار ،  وإسماعيل بن حماد ،  وغيرهما ، وتأولوه من قول مالك ،  وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة ،  وهو قول  أحمد بن حنبل ،   وداود الظاهري    . وذهب جمهور العلماء إلى أنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك  ورواية ابن نافع  وأشهب  عنه وهو قول  الشافعي  وأبي يوسف    . واحتج  الشافعي  بأن الحج فرض قبل حج النبيء - صلى الله عليه وسلم - بسنين ، فلو كان على الفور لما أخره ، ولو أخره لعذر لبينه أي لأنه قدوة للناس . وقال جماعة : إذا بلغ المرء الستين وجب عليه الفور بالحج إن كان مستطيعا خشية الموت ، وحكاه ابن خويز منداد  عن ابن القاسم    . 
ومعنى الفور أن يوقعه المكلف في الحجة التي يحين وقتها أولا عند استكمال شرط الاستطاعة . 
وقوله ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ظاهره أنه مقابل قوله من استطاع إليه سبيلا  فيكون المراد ب من كفر من لم يحج مع الاستطاعة ، ولذلك قال جمع من المحققين : إن الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحج . والمراد كفر النعمة . ويجوز أيضا أن يراد تشويه صنعه بأنه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حرمه . وقال قوم : أراد ومن كفر بفرض الحج ، وقال قوم بظاهره : إن ترك الحج مع القدرة عليه كفر . ونسب للحسن    . ولم يلتزم جماعة من المفسرين أن يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلة . كالتذييل ، بين بها عدم اكتراث الله بمن كفر به . 
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد ب من كفر من كفر بالإسلام ، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكة  بأنه لا اعتداد بحجهم عند الله وإنما يريد الله أن يحج المؤمنون به والموحدون له . 
 [ ص: 25 ] وفي قوله غني عن العالمين  رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنه لما فرض الحج وهم يصدون عنه ، وأعلمنا أنه غني عن الناس ، فهو لا يعجزه من يصد الناس عن مراده تعالى . 
				
						
						
