[ ص: 206 ] قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
هذه الجملة بدل من جملة قال رب إني دعوت قومي بدل اشتمال ؛ لأن حكاية عصيان قومه إياه مما اشتملت عليه حكاية أنه دعاهم ، فيحتمل أن تكون المقالتان في وقت واحد جاء فيه نوح إلى مناجاة ربه بالجواب عن أمره له بقوله أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فتكون إعادة فعل ( قال ) من قبيل ذكر عامل المبدل منه في البدل كقوله تعالى تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، للربط بين كلاميه لطول الفصل بينهما .
ويحتمل أن تكون المقالتان في وقتين جمعها القرآن حكاية لجوابيه لربه ، فتكون إعادة فعل ( قال ) لما ذكرنا مع الإشارة إلى تباعد ما بين القولين .
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن ما سبقها من قوله قال رب إني دعوت قومي إلى هنا مما يثير عجبا من حال قومه المحكي بحيث يتساءل السامع عن آخر أمرهم ، فابتدئ ذكر ذلك بهذه الجملة وما بعدها إلى قوله أنصارا . وتأخير هذا بعد عن قوله قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ارتقاء في التذمر منهم ؛ لأن هذا حكاية حصول عصيانهم بعد تقديم الموعظة إليهم بقوله يرسل السماء عليكم مدرارا إلى قوله سبلا فجاجا .
وإظهار اسم ( نوح ) مع القول الثاني دون إضمار لبعد معاد الضمير لو تحمله الفعل ، وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه ، كما تقدم في قوله قال رب إلخ . وتأكيد الخبر بـ ( إن ) للاهتمام بما استعمل فيه من التحسر والاستنصار .
ثم ذكر أنهم أخذوا بقول الذين يصدونهم عن قبول دعوة نوح ، أي : اتبعوا سادتهم وقادتهم . وعدل عن التعبير عنهم بالكبراء ونحوه إلى الموصول لما تؤذن به الصلة من بطرهم نعمة الله عليهم بالأموال والأولاد . فقلبوا النعمة عندهم موجب خسار وضلال .
وأدمج في الصلة أنهم أهل أموال وأولاد إيماء إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في [ ص: 207 ] قومهم وائتمار القوم بأمرهم : فأموالهم إذا أنفقوها لتأليف أتباعهم قال تعالى إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، وأولادهم أرهبوا بهم من يقاومهم .
والمعنى : واتبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال والأولاد إلا خسارا لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خسارا إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكابا للفساد قال تعالى وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا .
والخسار : مستعار لحصول الشر من وسائل شأنها أن تكون سبب خير كخسارة التاجر من حيث أراد الربح ، فإذا كان هؤلاء خاسرين فالذين يتبعونهم يكونون مثلهم في الخسارة وهم يحسبون أنهم أرشدوهم إلى النجاح .
وماصدق ( من ) فريق من القوم أهل مال وأولاد ازدادوا بذلك بطرا دون الشكر وهم سادتهم ، ولذلك أعيد عليه ضمير الجمع في قوله ومكروا ، وقوله وقالوا ، وقوله وقد أضلوا كثيرا .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ( وولده ) بفتح الواو وفتح اللام ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف ( وولده ) بضم الواو وسكون اللام ، فأما الولد ، بفتح الواو وفتح اللام ، فاسم يطلق على الواحد من الأولاد وعلى الجمع فيكون اسم جنس ، وأما ولد ، بضم فسكون ، فقيل : هو لغة في ولد فيستوي فيه الواحد والجمع مثل الفلك . وقيل : هو جمع ولد مثل أسد جمع أسد .
والمكر : إخفاء العمل أو الرأي الذي يراد به ضر الغير ، أي : مكروا بنوح والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم حتى يقعوا في الضر ، قيل كانوا يدبرون الحيلة على قتل نوح وتحريش الناس على أذاه وأذى أتباعه .
و كبارا : مبالغة ، أي : كبيرا جدا ، وهو وارد بهذه الصيغة في ألفاظ قليلة مثل طوال ، أي : طويل جدا ، وعجاب ، أي : عجيب ، وحسان ، وجمال ، أي : جميل ، وقراء لكثير القراءة ، ووضاء ، أي : وضيء . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية .
( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ) إلخ ، أي : قال بعضهم [ ص: 208 ] لبعض : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، هذه أصنام قوم نوح ، وبهذا تعلم أن أسماءها غير جارية على اشتقاق الكلمات العربية ، وفي واو ( ود ) لغتان للعرب منهم من يضم الواو ، وبه قرأ نافع وأبو جعفر . ومنهم من يفتح الواو ، وكذلك قرأ الباقون .
وروى عن البخاري : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر : أسماء رجال صالحين من قوم ابن عباس نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا ، وسموها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ، وعن : هي أسماء أبناء خمسة محمد بن كعب لآدم - عليه السلام - وكانوا عبادا . وعن الماوردي أن ( ودا ) أول صنم معبود .
والآية تقتضي أن هذه الأنصاب عبدت قبل الطوفان ، وقد قال بعض المفسرين : إن هذه الأصنام أقيمت لبعض الصلحاء من أولاد آدم ، وقال بعضهم : كانوا أصناما بين زمن آدم وزمن نوح .
ولا يلتئم هذا مع حدوث الطوفان إذ لا بد أن يكون جرفها ، وخلص البشر من الإشراك بعد الطوفان ، ومع وجود هذه الأسماء في قبائل العرب إلى زمن البعثة المحمدية ، فقد كان في دومة الجندل - بلاد كلب - صنم اسمه ود . قيل كان على صورة رجل وكان من صفر ورصاص وكان على صورة امرأة ، وكان لهذيل صنم اسمه سواع ، وكان لمراد وغطيف - بغين معجمة وطاء مهملة ، بطن من مراد بالجوف عند سبأ - صنم اسمه يغوث ، وكان أيضا لغطفان وأخذته " أنعم وأعلى " وهما من طيء وأهل جرش من مذحج فذهبوا به إلى مراد فعبدوه ، ثم إن بني ناجية راموا نزعه من أعلى ، وأنعم ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث من خزاعة . قال : رأيت يغوث من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أحرد - بالحاء المهملة ، أي : يخبط بيديه إذا مشى - ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل ، فيضربون عليه بناء ينزلون حوله . أبو عثمان النهدي
وكان يغوث على صورة أسد .
وكان لهمدان صنم اسمه يعوق وهو على صورة فرس ، وكان لكهلان من سبأ ثم توارثه بنوه حتى صار إلى همدان .
[ ص: 209 ] وكان لحمير ولذي الكلاع منهم صنم اسمه نسر على صورة النسر من الطير . وهذا مروي في صحيح عن البخاري . وقال : صارت الأوثان التي كانت في قوم ابن عباس نوح إلى العرب اهـ . فيجوز أن تكون انتقلت بأعيانها ويجوز أن يكون العرب سموا عليها ووضعوا لها صورا .
ولقد اضطر هذا بعض المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير ( قالوا ) إلى مشركي العرب ، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة قوم نوح بقصد التنظير ، أي : قال العرب بعضهم لبعض : لا تذرن آلهتكم ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما قال قومنوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم ، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح ، وهو تكلف بين وتفكيك لأجزاء نظم الكلام . فالأحسن ما رآه بعض المفسرين وما نريده بيانا : أن أصنام قوم نوح قد دثرت وغمرها الطوفان وأن أسماءها بقيت محفوظة عند الذين نجوا مع نوح من المؤمنين فكانوا يذكرونها ويعظون ناشئتهم بما حل بأسلافهم من جراء عبادة تلك الأصنام ، فبقيت تلك الأسماء يتحدث بها العرب الأقدمون في أثارات علمهم وأخبارهم ، فجاء عمرو بن لحي الخزاعي الذي أعاد للعرب عبادة الأصنام فسمى لهم الأصنام بتلك الأسماء وغيرها فلا حاجة بالمفسر إلى التطوح إلى صفات الأصنام التي كانت لها هذه الأسماء عند العرب ولا إلى ذكر تعيين القبائل التي عبدت مسميات هذه الأسماء .
ثم يحتمل أن يكون لقوم نوح أصنام كثيرة جمعها قول كبرائهم : لا تذرن آلهتكم ثم خصوا بالذكر أعظمها وهي هذه الخمسة ، فيكون ذكرها من عطف الخاص على العام للاهتمام به كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال . ويحتمل أن لا يكون لهم غير تلك الأصنام الخمسة فيكون ذكرها مفصلة بعد الإجمال للاهتمام بها ويكون العطف من قبيل عطف المرادف .
ولقصد التوكيد أعيد فعل النهي ولا تذرن ولم يسلك طريق الإبدال ، والتوكيد اللفظي قد يقرن بالعاطف كقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين .
ونقل عن الألوسي في طرة تفسيره لهذه الآية هذه الفقرة : قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة .
وتكرير ( لا ) النافية في قوله ولا سواعا ولا يغوث [ ص: 210 ] لتأكيد النفي الذي في قوله لا تذرن آلهتكم وعدم إعادة ( لا ) مع قوله ويعوق ونسرا ؛ لأن الاستعمال جار على أن لا يزاد في التأكيد على ثلاث مرات .
وقرأ نافع وأبو جعفر ( ودا ) بضم الواو . وقرأها غيرهما بفتح الواو ، وهو اسم عجمي يتصرف فيه لسان العرب كيف شاءوا .