[ ص: 247 ] فجملة قل إن أدري أقريب ما توعدون مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر .
والأمد : الغاية وأصله في الأمكنة . ومنه قول في حديث الصحيحين : ابن عمر أي : غاية المسابقة . ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي لم تضمر وجعل أمدها ثنية الوداع فطال عليهم الأمد وهو كذلك هنا . ومقابلته بـ ( قريب ) يفيد أن المعنى أم يجعل له أمدا بعيدا .
وجملة عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا في موضع العلة لجملة إن أدري أقريب ما توعدون الآية .
وعالم الغيب : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عالم الغيب ، والضمير المحذوف عائد إلى قوله ربي . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفا اتبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في المفتاح .
والغيب : مصدر غاب ، إذا استتر وخفي عن الأنظار ، وتعريفه تعريف الجنس .
وإضافة صفة عالم إلى الغيب تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفرادا فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته ، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن . ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها ، فإيثار المصدر هنا ؛ لأنه اشتمل لإحاطة علم الله بجميع ذلك .
وتقدم ذلك عند قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب في سورة البقرة .
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر ، أي : هو عالم الغيب لا أنا .
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة فلا يظهر على غيبه أحدا ، فالفاء لتفريع حكم على حكم ، والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه .
ومعنى لا يظهر على غيبه أحدا : لا يطلع ولا ينبئ به ، وهو أقوى من [ ص: 248 ] ( يطلع ) ؛ لأن ( يظهر ) جاء من الظهور وهو المشاهدة ، ولتضمينه معنى : يطلع ، عدي بحرف ( على ) .
ووقوع الفعل في حيز النفي يفيد العموم ، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيزه يفيد العموم .
وحرف ( على ) مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى وأظهره الله عليه فهو استعلاء مجازي .
واستثني من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي : على غيب أراد إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من إخبار بما سيحدث ، أو إطلاع على ضمائر بعض الناس .
فقوله ارتضى : مستثنى من عموم ( أحدا ) . والتقدير : إلا أحدا ارتضاه ، أي : اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى .
والإتيان بالموصول والصلة في قوله إلا من ارتضى من رسول لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الخبر ، أي : يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس ، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة ، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه ، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة ، أو أمور الدنيا ، وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين .
والمراد بهذا الإطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة . فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ، ففي الحديث ( ) قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة ، أو بالإلهام منهم عمر بن الخطاب رواه قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن مسلم . قال مسلم : قال ابن وهب : تفسير ( محدثون ) : ملهمون .
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة : إنها تسر ولا تغر ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها .
[ ص: 249 ] و من رسول بيان لإبهام ( من ) الموصولة فدل على أن ماصدق ( من ) جماعة من الرسل ، أي : إلا الرسل الذين ارتضاهم ، أي : اصطفاهم .
وشمل ( رسول ) كل مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل - عليه السلام - . وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم .
وهنا أربعة ضمائر غيبة :
الأول ضمير ( فإنه ) وهو عائد إلى الله تعالى .
والثاني الضمير المستتر في ( يسلك ) وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير ( فإنه ) .
والثالث والرابع ضميرا من بين يديه ومن خلفه ، وهما عائدان إلى ( رسول ) أي : فإن الله يسلك ، أي : يرسل للرسول رصدا من بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن خلفه رصدا ، أي : ملائكة يحفظون الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه .
والسلك حقيقته : الإدخال كما في قوله تعالى كذلك نسلكه في قلوب المجرمين في سورة الحجر .
وأطلق السلك على الإيصال المباشر تشبيها له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفا في قوله ( ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا ) أي : يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يبلغ إليه ما أوحي إليه من الغيب ، كأنهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم . وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
والمراد بـ من بين يديه ومن خلفه الكناية عن جميع الجهات ، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف .
[ ص: 250 ] والرصد : اسم جمع كما تقدم آنفا في قوله يجد له شهابا رصدا . وانتصب ( رصدا ) على أنه مفعول به لفعل ( يسلك ) .
ويتعلق ( ليعلم ) بقوله ( يسلك ) ، أي : يفعل الله ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم كما بعثه من دون تغيير ، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعا ومسببا عن تبليغ الوحي كما أنزل الله ، جعل المسبب علة وأقيم مقام السبب إيجازا في الكلام ؛ لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع ، وهذا كقول إياس بن قبيصة :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
أي : ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلم ذلك . وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب ، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها .وجيء بضمير الإفراد في قوله من بين يديه ومن خلفه مراعاة للفظ ( رسول ) ، ثم جيء له بضمير الجمع في قوله أن قد أبلغوا مراعاة لمعنى رسول وهو الجنس ، أي : الرسل على طريقة قوله تعالى السابق آنفا فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا .
والمراد : ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله وأدوا الأمانة علما يترتب عليه جزاؤهم الجزيل .
وفهم من قوله أن قد أبلغوا رسالات ربهم أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء ، ؛ لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقرب ما يوعدون به أو بعده ، وذلك من علائق الجزاء والبعث .
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلا ؛ لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييدا لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب .
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض [ ص: 251 ] أحوال الحكم الذي للمستثنى منه ، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص ، فليس قوله تعالى إلا من ارتضى من رسول بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله ، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
وقرأ رويس ، عن يعقوب ( ليعلم ) بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول على أن أن قد أبلغوا نائب عن الفاعل ، والفاعل المحذوف حذف للعلم به ، أي : ليعلم الله أن قد أبلغوا .