وأولئك هم المفلحون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم .
هذا مفرع عن الكلام السابق : لأنه لما أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال ، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمرين ثم الأحلوين ، فحلبوا الدهر أشطريه ، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هو فيه إلى حسنى ما هم عليه حتى يكون الناس أمة واحدة خيرة . وفي غريزة البشر حب المشاركة في الخير لذلك تجد الصبي إذا رأى شيئا أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه .
ولذلك كان هذا الكلام حريا بأن يعطف بالفاء ، ولو عطف بها لكان أسلوبا عربيا إلا أنه عدل عن العطف بالفاء تنبيها على أن مضمون هذا الكلام [ ص: 37 ] مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريا بأن يؤمر به ، فلا يكون مذكورا لأجل التفرع عن غيره والتبع .
وفيه من حسن المقابلة في التقسيم ضرب من ضروب الخطابة : وذلك أنه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدهم الناس عن الإيمان ، فقال قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله الآية .
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته وقوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير الآية .
وصيغة ولتكن منكم أمة صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها . فإذا كان غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية ، فالأمر لتشريع الوجوب ، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه ، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقررا من قبل بآيات أخرى مثل وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، أو بأوامر نبوية . فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدوام والثبات عليه ، مثل يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله .
والأمة الجماعة والطائفة كقوله تعالى كلما دخلت أمة لعنت أختها .
وأصل الأمة من كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصدا واحدا : من نسب أو موطن أو دين ، أو مجموع ذلك ، ويتعين ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم : أمة العرب وأمة غسان وأمة النصارى .
والمخاطب بضمير منكم إن كان هم أصحاب رسول الله كما هو ظاهر [ ص: 38 ] الخطابات السابقة آنفا جاز أن تكون ( من ) بيانية وقدم البيان على المبين ويكون ماصدق الأمة نفس الصحابة ، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى : ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير فهذه الأمة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكونوا من مجموعهم الأمة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير ، والمقصود تكوين هذا الوصف لأن الواجب عليهم هو التخلق بهذا الخلق فإذا تخلقوا به تكونت الأمة المطلوبة . وهي أفضل الأمم . وهي أهل المدينة الفاضلة المنشودة للحكماء من قبل ، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز .
وفي هذا محسن التجريد : جردت من المخاطبين أمة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لفلان من بنيه أنصار . والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتى تكونوا أمة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهم الذين تلقوا الشريعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ، فهم أولى الناس بتبليغها . وأعلم بمشاهدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في مواطن كثيرة وإلى هذا المحمل مال ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلغت وغير واحد من المفسرين ، كما قاله الزجاج ابن عطية .
ويجوز أيضا ، على اعتبار الضمير خطابا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أن تكون ( من ) للتبعيض ، والمراد من الأمة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصحابة فقد قال ابن عطية : قال الضحاك ، : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة . فهم خاصة أصحاب الرسول وهم خاصة الرواة . والطبري
وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كل جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطل الهدى . ومن الناس من لا يستطيع الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، [ ص: 39 ] والنهي عن المنكر ، قال تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية .
وإن كان الخطاب بالضمير لجميع المؤمنين تبعا لكون المخاطب بيا أيها الذين آمنوا إياهم أيضا ، كانت ( من ) للتبعيض لا محالة ، وكان المراد بالأمة الطائفة ، إذ لا يكون المؤمنون كلهم مأمورين بالدعاء إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية ، والطبري ، ومن تبعهم ، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معينة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الذي فرض على الأمة وقوعه .
على أن هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون ( من ) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمة ، ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلوا عن ذلك على حسب الحاجة ، ومقدار الكفاءة للقيام بذلك ، ويكون هذا جاريا على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم : باهلة لئام ، وعذرة عشاق .
وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا كما سيأتي .
إن الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بين يقوم به كل مسلم ، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمى بفرض الكفاية ، يعني إذا قام به بعض الناس كفى عن قيام الباقين ، وتتعين الطائفة التي تقوم بها بتوفر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها . كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك تعين العدد الذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدو ، ولما كان الأمر يستلزم متعلقا فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الذين فيهم الشروط ، ومجموع أهل البلد ، أو القبيلة ، [ ص: 40 ] لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثم إذا قام به البعض فإنما يثاب ذلك البعض خاصة .
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبث دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث قلت : حذيفة بن اليمان الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف . وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاص على العام للاهتمام به . يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر
وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي يدعون كل أحد كما في قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام .
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأن الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيا به ، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول ، وفي الشرائع ، وهو الحق والصلاح ، لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض .
والمنكر مجاز في المكروه ، والكره لازم للإنكار لأن المنكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنهما من المكروه في الجبلة عند انتفاء العوارض .
والتعريف في الخير ، و المعروف ، و المنكر تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي .
ومن المفسرين من عين جعل ( من ) في قوله تعالى ولتكن منكم أمة للبيان ، [ ص: 41 ] وتأول الكلام بتقدير تقديم البيان على المبين فيصير المعنى : ولتكن أمة هي أنتم أي ولتكونوا أمة يدعون ، محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ومساواة معنيي الآيتين غير متعينة لجواز أن يكون المراد من خير أمة هاته الأمة ، التي قامت بالأمر بالمعروف ، على ما سنبينه هنالك .
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا شك أن الأمر والنهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنهي عنه ، وأما امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأما ما وقع في الحديث فذلك مرتبة التغيير ، والتغيير يكون باليد ، ويكون بالقلب أي تمني التغيير ، وأما الأمر والنهي فلا يكونان بهما . من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكل مسلم أن يأمر وينهى فيهما ، وإن كانا نظريين ، فإنما يقوم بالأمر والنهي فيهما أهل العلم .
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط مبينة في الفقه والآداب الشرعية ، إلا أني أنبه إلى شرط ساء فهم بعض الناس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط ألا يجر النهي إلى منكر أعظم . وهذا شرط قد خرم مزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واتخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب . ولقد ساء فهمهم فيه إذ مراد مشترطه أن يتحقق الأمر أن أمره يجر إلى منكر أعظم لا أن يخاف أن يتوهم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلا ظن أقوى .
ولما كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتوقفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التغيير ، وإفهام الناس ذلك ، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن [ ص: 42 ] المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسموا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى في هاته الولاية عمر بن الخطاب أم الشفاء ، وأشهر من وليها في الدولة العباسية ابن عائشة ، وكان رجلا صلبا في الحق ، وتسمى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد ولياها في قرطبة الإمام محمد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشج من أصحاب ابن القاسم توفي سنة 220 . وكانت في الدولة الحفصية ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربما ضمت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصية .
وجملة وأولئك هم المفلحون معطوفة على صفات أمة وهي التي تضمنتها جمل يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والتقدير : وهم مفلحون : لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة وأولئك هم المفلحون حالا من أمة ، والواو للحال .
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك . وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عما قبلها بدون عطف ، مثل فصل جملة أولئك على هدى من ربهم لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل التي قبلها ، فهي أجدر بأن تلحق بها .
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو إما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه ، وإما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم ، وهو معنى قصد الدلالة على معنى الكمال .
وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا معطوف على قوله ولتكن منكم أمة وهو يرجع إلى قوله - قبل - ولا تفرقوا لما فيه من تمثيل حال التفرق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أخوال اليهود . وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشق الأمة بذلك انشقاقا شديدا .
[ ص: 43 ] والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله ولتكن منكم أمة مع أنه شك في أن حكم هذه الآية يعم سائر المسلمين : إما بطريق اللفظ ، وإما بطريق لحن الخطاب ، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال اللذين تفرقوا واختلفوا .
وأريد ب الذين تفرقوا واختلفوا في أصول الدين ، من اليهود والنصارى ، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق . وقدم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارنتها ، وفي عكسه قوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله .
وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضا ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبنية على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبر عنه بالاجتهاد . ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة .
والبينات : الدلائل التي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام .
وقوله وأولئك لهم عذاب عظيم مقابل قوله في الفريق الآخر وأولئك هم المفلحون فالقول فيه كالقول في نظيره ، وهذا جزاء على التفرق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنب أسبابه .