وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضمير نحو : أن يقال : عنها معرضين ، لئلا يختص الإنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإنذار بسقر ، بل المقصود التعميم لإعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإعراض قال تعالى ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
وما لهم استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفهم عنها المستفهمون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة ، و ( لهم ) خبر عن ( ما ) الاستفهامية . والتقدير : ما ثبت لهم ، ومعرضين حال من ضمير ( لهم ) ، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة .
وتركيب : ما لك ونحوه ، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردة أو جملة نحو ما لك لا تأمنا على يوسف في سورة يوسف . وقوله تعالى ( فما لهم لا يؤمنون ) في سورة الانشقاق . وقوله ( ما لكم كيف تحكمون ) في سورة الصافات وسورة القلم . و " عن التذكرة " متعلق بـ " معرضين " .
وشبهت حالة إعراضهم المتخيلة بحالة فرار حمر نافرة مما ينفرها .
والحمر : جمع حمار ، وهو الحمار الوحشي ، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس .
وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهرب بالوحش من حمر أو بقر وحش إذا أحسسن بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد :
فتوجست رز الأنيس فراعـهـا عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإسلام كما في معلقة طرفة ، ومعلقة لبيد ، ومعلقة الحارث ، وفي أراجيز الحجاج ورؤبة ابنه وفي شعر . ذي الرمة[ ص: 330 ] والسين والتاء في ( مستنفرة ) للمبالغة في الوصف مثل : استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستخرج واستنبط ، أي نافرة نفارا قويا فهي تعدو بأقصى سرعة العدو .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( مستنفرة ) بفتح الفاء ، أي استنفرها مستنفر ، أي أنفرها ، فهو من استنفره المتعدي بمعنى أنفره . وبناء الفعل للنائب يفيد الإجمال ثم التفصيل بقوله ( فرت من قسورة ) .
وقرأها الجمهور بكسر الفاء ، أي استنفرت هي مثل : استجاب فيكون جملة فرت من قسورة بيانا لسبب نفورها .
وفي تفسير الفخر عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام : سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت : كأنهم حمر ماذا ؟ فقال : مستنفرة : بفتح الفاء فقلت له : إنما هو فرت من قسورة . فقال : أفرت ؟ قلت : نعم قال : فمستنفرة إذن ، فكسر الفاء .
و " قسورة " قيل هو اسم جمع قسور وهو الرامي ، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فعلل أن يجمع على فعللة . وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جاريا على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب .
وقيل : القسورة مفرد ، وهو الأسد ، وهذا مروي عن أبي هريرة ، وقال وزيد بن أسلم : إنه الأسد بالحبشية ، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافا لفظيا ، وعنه : أنه أنكر أن يكون قسور اسم الأسد ، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية . وقد عده ابن عباس ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك ، قال : القسور الأسد والقسورة كذلك ، أنثوه كما قالوا : أسامة ، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إعراض مخلوط برعب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان . ابن سيده
وإيثار لفظ " قسورة " هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة .