إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) لما فيه من التشويق .
والتقرير يقتضي الإقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة ، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له إن الله خلقه بعد أن كان معدوما فأوجد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنسانا ، فثبت تعلق الخلق بالإنسان بعد عدمه .
وتأكيد الكلم بحرف ( إن ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لعدم جريهم على موجب العلم حيث عبدوا أصناما لم يخلقوهم .
والمراد بـ " الإنسان " مثل ما أريد به من قوله ( هل أتى على الإنسان ) أي كل نوع الإنسان .
وأدمج في ذلك من نطفة التناسل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة . كيفية خلق الإنسان
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة .
وأمشاج : مشتق من المشج وهو الخلط ، أي نطفة مخلوطة قال تعالى ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) وذلك تفسير معنى الخلط الذي أشير إليه هنا .
[ ص: 374 ] وصيغة أمشاج ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت فهي إما جمع مشج بكسر فسكون بوزن عدل ، أي ممشوج ، أي مخلوط مثل ذبح ، وهذا ما اقتصر عليه في اللسان والقاموس ، أو جمع مشج بفتحتين مثل سبب وأسباب أو جمع مشج بفتح فكسر مثل كتف وأكتاف . والمبرد ،
والوجه ما ذهب إليه صاحب الكشاف : أن ( أمشاج ) مفرد كقولهم : برمة أعشار وبرد أكياش - بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين - . قال : ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مشج بل هما - أي مشج وأمشاج - مثلان في الإفراد اهـ . وقال بعض الكاتبين : إنه خالف كلام . وأشار سيبويه البيضاوي إلى ذلك ، وأحسب أنه لم ير كلام صريحا في منع أن يكون ( أمشاج ) مفردا لأنه أثبت الإفراد في كلمة أنعام سيبويه معروف بشدة متابعة والزمخشري . سيبويه
فإذا كان ( أمشاج ) في هذه الآية مفردا كان على صورة الجمع كما في الكشاف . فوصف نطفة به غير محتاج إلى تأويل ، وإذا كان جمعا كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص ، - فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضوا - فوصف النطفة بجمع الاسم للمبالغة أي شديدة الاختلاط . والمبرد ،
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيميائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة .
وجملة ( نبتليه ) في موضع الحال من الإنسان وهي حال مقدرة ، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل ، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف ، وهذه الحال كقولهم : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا .
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة ( خلقنا ) وبين ( فجعلناه سميعا بصيرا ) لأن الابتلاء ، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع ( نبتليه ) بعد جملة ( إنا هديناه السبيل ) ، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة .
[ ص: 375 ] وجيء بجملة ( إنا هديناه السبيل ) بيانا لجملة ( نبتليه ) تفننا في نظم الكلام .
وحقيقة الابتلاء : الاختبار لتعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته .
وفرع على خلقه من نطفة أنه جعله سميعا بصيرا ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره ، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه : سامعا مبصرا ، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلا وتمييزا في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان ، فبالسمع يتلقى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وجود الله وبديع صنعه .
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإنسان من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإنسان التي بها ارتكزت مدنيته وانتظمت جامعاته ، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله ( إنا هديناه السبيل ) الآيات .