يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون جملة يخادعون بدل اشتمال من جملة يقول آمنا بالله وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة . والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع ، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله ، تقول العرب : خدع الضب ، إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء .
والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضا لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة [ ص: 275 ] فذلك من الكرم والحلم قال والخداع فعل مذموم إلا في الحرب : استمطروا من الفرزدق قريش كل منخدع إن الكريم إذا خادعته انخدعا وفي الحديث أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله : المؤمن غر كريم مع قوله : والسعيد من وعظ بغيره وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال المؤمن غر كريم : ذو الرمة
تلك الفتاة التي علقتها عرضا
إن الحليم وذا الإسلام يختلب فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها .
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر ، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع ، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة يخادعون أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به .
فأما التأويل في يخادعون فعلى وجوه : أحدها أن مفعول خادع لا يلزم أن يكون مقصودا للمخادع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكله ، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين ، وأما تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لقد نهى [ ص: 276 ] من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن أبي بن سلول ، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله ، ونظيره قوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم في سورة النساء ، كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين ، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها ، كل بما يلائمه .
الثاني ما ذكره صاحب الكشاف أن " يخادعون " استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله ، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء عليهم ، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم ، بهيئة فعل المتخادعين .
الثالث أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة . قال ابن عطية عن الخليل : يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة ، قال ابن عطية كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بد من حيث إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل اهـ .
وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين على وجه التبعية ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : يخدعون الله . وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله . وأما التأويل في فاعل يخادعون المقدر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله وإما مجاز بالحذف للمضاف ، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة ، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق .
وقوله وما يخادعون قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف يخادعون بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب ( يخدعون ) بفتح التحتية وسكون الخاء . وجملة وما يخادعون إلا أنفسهم حال من الضمير في يخادعون الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى [ ص: 277 ] الله والذين آمنوا . فيتعين أن الخداع في قوله ( وما يخادعون ) عين الخداع المتقدم في قوله يخادعون الله فيرد إشكال صحة قصر الخداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين . وقد أجاب صاحب الكشاف بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضر فإنها قد استعملت أولا في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانيا وأريد منها لازم معنى الاستعارة وهو الضر لأن الذي يعامل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامله فقد يجد قدرة من نفسه أو غرة من صاحبه فيضره ضرا فصار حصول الضر للمعامل أمرا عرفيا لازما لمعامله ، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولا استعارة ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم المعنى المستعار له ، فالمعنى وما يضرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم ، ويجيء تأويل معنى جعل أنفسهم شقا ثانيا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تسوء عواقبه أنها فعل نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيل بني على خطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النفس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها ، قال عمرو بن معد يكرب :
فجاشت علي النفس أول مرة
فردت على مكروهها فاستقرت وذكر ابن عطية أن أبا علي الفارسي أنشد لبعض الأعراب : لم تدر ما ( لا ) ولست قائلها
عمرك ما عشت آخر الأبد ولم تؤامر نفسيك ممتريا
فيها وفي أختها ولم تكد يريد بأختها كلمة ( نعم ) وهي أخت لا والمراد أنها أخت في اللسان . وقلت ومنه قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو [ ص: 278 ] النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين .
واعلم أن قوله ( يخادعون الله والذين ) أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف ، والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل .
وقوله وما يشعرون عطف على جملة ( وما يخادعون ) والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية ، ومنه سمي الشاعر شاعرا لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة ، ولا يحسن لذلك كل أحد ، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي ، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن ، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن أجسامهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة .
على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمترى فيه . واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفى واختير في قوله ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب الكشاف قال : فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .