وجعلنا النهار معاشا .
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل ، فالنهار : الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية . وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه ؛ إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض ، وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار ، فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء ، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي ; لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجد راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق . بخلق نظام النهار
ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش ، وقد أشعر ذكر النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداء وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير : وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشا ، ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة ، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعية لفظا وضمنا .
[ ص: 22 ] والمعاش : يطلق مصدر عاش إذا حيي ، فالمعاش : الحياة ، ويطلق اسما لما به عيش الإنسان من طعام وشراب على غير قياس .
والمعنيان صالحان للآية ؛ إذ يكون المعنى : وجعلنا النهار حياة لكم . شبهت اليقظة فيه الحياة ، أو يكون المعنى : وجعلنا النهار معيشة لكم ، والإخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضا بعلاقة السببية ; لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة ، وذلك يقابل جعل الليل سباتا بمعنى الانقطاع عن العمل ، قال تعالى : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله .
ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسنات .