لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا .
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا ثانية من الطاغين أو حالا أولى من الضمير في ( لابثين ) ، وأن تكون خبرا ثالثا لـ كانت مرصادا .
وضمير ( فيها ) على هذه الوجوه عائد إلى جهنم .
ويجوز أن تكون صفة ل ( أحقابا ) ، أي : لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا . فضمير ( فيها ) على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب .
وحقيقة الذوق : إدراك طعم الطعام والشراب . ويطلق على الإحساس بغير الطعوم مجازيا . وشاع في كلامهم ، يقال : ذاق الألم ، وعلى وجدان النفس كقوله تعالى : ليذوق وبال أمره . وقد استعمل هنا في معنييه ؛ حيث نصب ( بردا ) و ( شرابا ) .
والبرد : ضد الحر ، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر ، أي : لا يغاثون بنسيم بارد ، والبرد ألذ ما يطلبه المحرور . وعن مجاهد والسدي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم ، وأنشدوا شاهدين غير واضحين ، وأيا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه ، وعطف ولا شرابا يناكده . والشراب : ما يشرب ، والمراد به الماء الذي يزيل العطش . والحميم : الماء الشديد الحرارة .
[ ص: 38 ] والغساق : قرأه الجمهور بتخفيف السين ، وقرأه حمزة ، ، والكسائي وحفص بتشديد السين ، وهما لغتان فيه . ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المهل ، وتقدما في سورة ص .
واستثناء حميما وغساقا من ( بردا ) أو ( شرابا ) على طريقة اللف والنشر المرتب ، وهو استثناء منقطع ; لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء ؛ إذ هو شديد الحر ، ولأن الغساق ليس من جنس الشراب ؛ إذ ليس المهل من جنس الشراب .
والمعنى : يذوقون الحميم ؛ إذ يراق على أجسادهم ، والغساق ؛ إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم .
وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة .
و ( جزاء ) منصوب على الحال من ضمير ( يذوقون ) ، أي : حالة كون ذلك جزاء ، أي : مجازى به ، فالحال هنا مصدر مؤول بمعنى الوصف وهو أبلغ من الوصف .
والوفاق : مصدر وافق وهو مؤول بالوصف ، أي : موافقا للعمل الذي جوزوا عليه ، وهو التكذيب بالبعث وتكذيب القرآن كما دل عليه التعليل بعده بقوله : إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا .
فإن ذلك أصل إصرارهم على الكفر ، وهما أصلان : أحدهما عدمي وهو إنكار البعث ، والآخر وجودي وهو نسبتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن للكذب ، فعوقبوا على الأصل العدمي بعقاب عدمي وهو حرمانهم من البرد والشراب ، وعلى الأصل الوجودي بجزاء وجودي وهو الحميم يراق على أجسادهم والغساق يمر على جراحهم .