يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا
يجوز أن يتعلق بفعل اتخذ إلى ربه مآبا فيكون يوم ينظر ظرفا لغوا متعلقا ب ( أنذرناكم ) .
ويجوز أن يكون بدلا من يوم يقوم الروح والملائكة صفا لأن قيام الملائكة صفا حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم ، وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي : ما عمله سالفا ، فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه .
وعلى كلا الوجهين فجملة إنا أنذرناكم عذابا قريبا معترضة بين الظرف ومتعلقه ، أو بينه وبين ما أبدل منه .
والمرء : اسم للرجل ؛ إذ هو اسم مؤنثه امرأة .
والاقتصار على المرء جرى على غالب استعمال العرب في كلامهم ، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب ; لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت .
والمراد : ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى ، ما قدمت يداه . وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين ; لأن الرجل هو المستحضر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب .
[ ص: 57 ] وتعريف ( المرء ) للاستغراق مثل : إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وفعل ( ينظر ) يجوز أن يكون من نظر العين أي : البصر ، والمعنى : يوم يرى المرء ما قدمت يداه . ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه : حصول جزاء عمله له ، فعبر عنه بالنظر ; لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئيا لصاحبه من خير أو شر ، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، ونظيره قوله تعالى : ليروا أعمالهم ، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية . و ( ما ) موصولة ، صلتها جملة قدمت يداه .
ويجوز أن يكون من نظر الفكر ، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال : هو بخير النظرين ، ومنه التنظر : توقع الشيء ، أي : يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه ، وتكون ( ما ) على هذا الوجه استفهامية ، وفعل ( ينظر ) معلقا عن العمل بسبب الاستفهام ، والمعنى : ينظر المرء جواب من يسأل : ما قدمت يداه ؟ ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله .
وتعريف ( المرء ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق .
والتقديم : تسبيق الشيء والابتداء به .
و ما قدمت يداه هو ما أسلفه من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات ، فقد قال تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء الآية .
وقوله : ما قدمت يداه إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال ، وإما أن يكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات بيديه ، كما قالوا في المثل : " يداك أوكتا " ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه .
[ ص: 58 ] ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب ; لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيلية .
وشمل ما قدمت يداه الخير والشر .
وخص بالذكر من عموم المرء الإنسان الكافر الذي يقول : يا ليتني كنت ترابا ; لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر ، أي : يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلا عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع ، أي : يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حساس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب ، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر .
وقد كانوا يقولون : ( أإذا كنا ترابا ورفاتا إنا لمبعوثون ) فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب .
وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك ; لأن ، وقد قال الله تعالى : المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته ، فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وقال : ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب - وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها - ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغى على ثواب حسناتهم ، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم ، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلا بقوله : وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون على ما في تفسيرها من وجوه .
وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين ، وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عرفوا بالطاغين ، وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع .