( يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها
.
استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .
وكان سؤالهم استهزاء واستخفافا ; لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة ، وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها ; لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان صادقا لحمي غضب الله مرسله - سبحانه - ، فبادر بإراءتهم العذاب ، وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجل بالانتقام طيشا وحنقا ، قال تعالى : لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .
فلا جرم لما قضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال ، وعرض بعقاب الذين استخفوا بها في قوله : فإذا جاءت الطامة الكبرى ، كان ذلك مثارا لسؤالهم أن يقولوا : هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم ؟ فكان الحال مقتضيا هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجوابا عن سابق الكلام .
فضمير ( يسألون ) عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا أإنا لمردودون في الحافرة .
[ ص: 95 ] وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره .
والساعة : هي الطامة ؛ فذكر الساعة إظهار في مقام الإضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين ( الطامة ) و ( الساعة ) .
و ( أيان مرساها ) جملة مبينة للسؤال .
و ( أيان ) اسم يستفهم به عن تعيين الوقت .
والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كناية وهو أيضا كناية عن الاستحالة ، و ( مرساها ) مصدر ميمي لفعل أرسى ، والإرساء : جعل السفينة عند الشاطئ لقصد النزول منها . واستعير الإرساء للوقوع والحصول تشبيها للأمر المغيب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يعرف وصولها إلا إذا رست ، وعليه ف ( أيان ) ترشيح للاستعارة ، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف .
وقوله : فيم أنت من ذكراها واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء ، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك ، وهو مضمون قوله : إنما أنت منذر من يخشاها . وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم ، ونظيره ما روي في الصحيح أي : كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعدادا ليوم الساعة . أن رجلا سأل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال له : ماذا أعددت لها ؟
والخطاب وإن كان موجها إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين ، فلذلك اعتبر اعتبار جواب عن كلامهم ، وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال .
و ( ما ) في قوله : ( فيم ) اسم استفهام بمعنى : أي شيء ؟ مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم . و ( في ) للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة ، كأنهم جعلوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - محوطا [ ص: 96 ] بذكر ، أي : متلبسا به تلبس العالم بالمعلوم ، فدل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف . وقت الساعة
وحذف ألف ( ما ) لوقوعها بعد حرف الجر مثل عم يتساءلون . و ( فيم ) خبر مقدم و ( أنت ) مبتدأ ، و ( من ذكراها ) إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ .
و ( من ) : إما مبينة للإبهام الذي في ( ما ) الاستفهامية ، أي : في شيء هو ذكراها ، أي : في شيء هو أن تذكرها ، أي : لست متصديا لشيء هو ذكرى الساعة ، وإما صفة للمبتدأ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي ، أي : لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله ، أي : ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة ، وعلى الثاني : ما أنت في صلة مع ذكر الساعة ، أي : لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها .
وتقديم ( فيم ) على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإنكار بخلاف ما لو قيل : أأنت في شيء من ذكراها ؟ والذكرى : اسم مصدر الذكر ، والمراد به هنا الذكر اللساني .
وجملة إلى ربك منتهاها في موقع العلة للإنكار الذي اقتضاه قوله : فيم أنت من ذكراها ولذلك فصلت ، وفي الكلام تقدير مضاف ، والمعنى : إلى ربك علم منتهاها .
وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله : إلى ربك منتهاها لإفادة القصر ، أي : لا إليك ، وهذا قصر صفة على موصوف .
والمنتهى : أصله مكان انتهاء السير ، ثم أطلق على المصير; لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى : وأن إلى ربك المنتهى ثم توسع فيه فأطلق على العلم ، أي : لا يعلمها إلا الله ، فقوله : ( منتهاها ) هو في المعنى على حذف مضاف ، أي : علم وقت حصولها كما دل عليه قوله : ( أيان مرساها ) .
ويجوز أن يكون ( منتهاها ) بمعنى بلوغ خبرها كما يقال : أنهيت إلى فلان حادثة كذا ، وانتهى إلي نبأ كذا .
[ ص: 97 ] وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها استئناف بياني ناشئ عن جملة فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبيء - صلى الله عليه وسلم - ذكرها وأنها قريبة ، فأجيب بأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - حظه التحذير من بغتتها ، وليس حظه الإعلام بتعيين وقتها ، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها ; لأنهم بجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبيء - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، كما في قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب .
وأفادت ( إنما ) قصر المخاطب على صفة الإنذار ، أي : تخصيصه بحال الإنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي ، أي : بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعا على الغيب .
وقوله : منذر من يخشاها قرأه الجمهور بإضافة ( منذر ) إلى ( من يخشاها ) . وقرأه أبو جعفر بتنوين ( منذر ) على أن ( من يخشاها ) مفعوله .
وفي إضافة ( منذر ) إلى ( من يخشاها ) أو نصبه به إيجاز حذف ، تقديره : منذرها فينتذر من يخشاها ، وقرينة ذلك حالية للعلم المتواتر من القرآن بأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان ينذر جميع الناس لا يخص قوما دون آخرين ، فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم تكن إلا عامة ، ولا يعرف من يخشى الساعة إلا بعد أن يؤمن المؤمن ، ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبدا لما وجهت إليه الدعوة ، فتعين أن المراد : أنه لا ينتفع بالإنذار إلا من يخشى الساعة ، ومن عداه تمر الدعوة بسمعه فلا يأبه بها ، فكان ذكر من يخشاها تنويها بشأن المؤمنين وإعلانا لمزيتهم وتحقيرا للذين بقوا على الكفر قال تعالى : وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير .
وعلى هذا القانون يفهم لماذا وجه هذا الخطاب بالإيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون ، وكشف الواقع على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليب بدر ، مثل أبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، ولماذا وجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل : دعار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش ، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصروا على منع الزكاة [ ص: 98 ] وقاتلهم أبو بكر - رضي الله عنه - ، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله ; لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة الموافاة .