عطف على جملة إنه لقول رسول كريم فهو داخل في خبر القسم جوابا ثانيا عن القسم ، والمعنى : وما هو أي : القرآن بقول مجنون كما تزعمون . فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مرسل من الله وكان قد تضمن ذلك ثناء على النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنه صادق فيما بلغه عن الله تعالى ، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه على النبيء - صلى الله عليه وسلم - من قولهم معلم مجنون وقولهم أفترى على الله كذبا أم به جنة ، فأبطل قولهم إبطالا مؤكدا ومؤيدا ، فتأكيده بالقسم وبزيادة الباء بعد النفي ، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلغه صاحبهم ، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خلقه وعقله ويعلمون أنه ليس بمجنون ، إذ شأن الصاحب أن لا تخفى دقائق أحواله على أصحابه .
والمعنى : ، فسلامة مبلغه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وسوسة . نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين
ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب رسول كريم النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قوله : صاحبكم هنا إظهارا في مقام الإضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي .
والصاحب حقيقته : ذو الصحبة ، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة ، ومنه قيل للزوج : صاحبة ، وللمسافر مع غيره صاحب ، قال امرؤ القيس :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
[ ص: 158 ] وقال تعالى حكاية عن يوسف : يا صاحبي السجن وقال الحريري في المقامة الحادية والعشرين : " ولا لكم مني إلا صحبة السفينة " .
وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالط في أحوال كثيرة ولو في الشر ، كقول الحجاج يخاطب الخوارج : " ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر " . وقول الفضل اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والمعنى : أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته ، فما قولكم عليه إنه مجنون إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة .
فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها ، والقصد من ذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين إثبات صدق جبريل ومحمد - عليهما السلام - والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني .
ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب الكشاف : " وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكانة جبريل - عليه السلام - ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا وازنت بين الذكرين وقايست بين قوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ، وبين قوله : وما صاحبكم بمجنون " ا ه .
وكيف انصرف نظره عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولم يقولوا في جبريل شيئا ; لأن رام أن ينتزع من الآية دليلا لمذهب الزمخشري أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وهي مسألة لها مجال آخر ، على أنك قد علمت أن الصفات التي أجريت على رسول في قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم إلى قوله : أمين غير متعين انصرافها إلى جبريل ، [ ص: 159 ] فإنها محتملة الانصراف إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغيانا يرمي بفهمه في مهاوي الضآلة ، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون ، وهذا كله مبني على تفسير رسول كريم بجبريل ، فأما إن أريد به محمد - صلى الله عليه وسلم - أو هو وجبريل - عليهما السلام - فهذا مقتلع من جذره .
ولا يخفى أن العدول عن اسم النبيء العلم إلى صاحبكم لما يؤذن به صاحبكم من كونهم على علم بأحواله ، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد بـ رسول خصوص النبيء - صلى الله عليه وسلم - فمن الإظهار في مقام الإضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب رسول كلاهما فذكر صاحبكم لتخصيص الكلام به .