الضمير عائد إلى صاحبكم كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدعوا أن جبريل ضنين على الغيب ، وإنما ادعوا ذلك للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ظلما وزورا ، ولقرب المعاد .
والغيب : ما غاب عن عيان الناس ، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر .
والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يطلع عليه بعض أنبيائه ، ومنه وحي الشرائع ، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه ، ومشاهدة ملك الوحي ، وتقدم في قوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب في سورة البقرة .
وكتبت كلمة بضنين في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء .
وحكي عن أبي عبيد ، قال : هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به . الطبري
وفي الكشاف هو في مصحف أبي بالضاد وفي مصحف بالظاء وقد اختصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال : ابن مسعود
والضاد في " بضنين " تجمع البشرا
وقد اختلف القراء في قراءته ، فقرأه نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر [ ص: 161 ] وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس ، وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام .
وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وذكر في الكشاف أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما ، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه ; لأن القراءتين ما كانتا متواترتين إلا وقد رويتا عن النبيء صلى الله عليه وسلم .
والضاد والظاء حرفان مختلفان ، والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالبا إلا نحو " حضض " بضادين ساقطتين و " حظظ " بظاءين مشالين و " حضظ " بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء . فقد قالوا : إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صمغ يقال له : خولان .
ولا شك أن الذين قرءوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواترا عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار ; لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر .
وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها ، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم ترو متواترة كما بينا في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير .
وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة ، بأن قال : ليس هذا بخلاف الكتاب ; لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى ، فهذا قد يتشابه ويتدانى اهـ .
يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتاب المصاحف للقراءات المتواترة ، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب . وها هنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس .
ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة ; لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن [ ص: 162 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان ، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين .
وإذا تواترت قراءة بضنين بالضاد الساقطة و ( بظنين ) بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين .
فأما معنى ضنين بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتق من الضن بالضاد مصدر ضن ، وإذا بخل ، ومضارعه بالفتح والكسر .
فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي ، أي : وما صاحبكم ببخيل أي : بما يوحى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلبا للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بعوض تعطونه ، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهنا أو عرافا يتلقى الأخبار عن الجن إذ كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات ، قال تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة إلى أن النبيء لا يسألهم عوضا عما يخبرهم به وأن الكاهن يأخذ على ما يخبر به ما يسمونه حلوانا ، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أسألكم عليه من أجر ونحو ذلك .
ويجوز أن يكون ضنين مجازا مرسلا في الكتمان بعلاقة اللزوم ; لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم ، أي : ما هو بكاتم الغيب ، أي : ما يوحى إليه ، وذلك أنهم كانوا يقولون ائت بقرآن غير هذا أو بدله وقالوا ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه .
ويتعلق على الغيب بقوله : بضنين .
وحرف على على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى : حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق أي : حقيق بي ، أو لتضمين ضنين معنى حريص ، والحرص : شدة البخل وما محمد بكاتم شيئا من الغيب ، فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه . وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى [ ص: 163 ] عن عدم التغيير . والمعنى : وما صاحبكم بكاتم شيئا من الغيب ، أي : ما أخبركم به فهو الحق .
وأما معنى ( ظنين ) بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة ، أي : مظنون . ويراد إنه مظنون به سوء ، أي أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب ، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فعدي إلى مفعول واحد . وأصل ذلك أنهم يقولون : ظن به سوءا ، فيتعدى إلى متعلقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولا فقالوا ظنه : بمعنى : اتهمه ، يقال : سرق لي كذا وظننت فلانا .
وحرف ( على ) في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو أو أجد على النار هدى أي : ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون كما بلغه ، أي أن ما بلغه هو الغيب لا ريب فيه ، وعكسه قولهم : ائتمنه على كذا .