بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .
إضراب إبطال لتكذيبهم ; لأن القرآن جاءهم بدلائل بينة فاستمرارهم على التكذيب ناشئ عن سوء اعتقادهم صدق القرآن ، إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم : أساطير الأولين ، إفك مفترى ، قول كاهن ، قول شاعر ، فكان التنويه به جامعا لإبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإيجاز .
[ ص: 253 ] وقرآن : مصدر قرئ على وزن فعلان الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان . وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه ، سواء كان مكتوبا في صحيفة أم كان ملقنا لتاليه ، بحيث لا يخالف أصله كلام تاليه ، ولذلك لا يقال لنقل كلام إنه قراءة إلا إذا كان كلاما مكتوبا أو محفوظا .
وكلما جاء قرآن منكرا فهو مصدر ، وأما اسم كتاب الإسلام فهو بالتعريف باللام لأنه علم بالغلبة .
فالإخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون : أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك .
ووصف قرآن صفة أخرى بأنه مودع في لوح .
واللوح : قطعة من خشب مستوية تتخذ ليكتب فيها .
وسوق وصف في لوح مساق التنويه بالقرآن وباللوح ، يعين أن اللوح كائن قدسي من كائنات العالم العلوي المغيبات ، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن ، فجعل الله القرآن مكتوبا في لوح علوي كما جعل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال : وكتبنا له في الألواح من كل شيء وقال : وألقى الألواح وقال : ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وأما لوح القرآن فجعله محفوظا في العالم العلوي .
وبعض علماء الكلام فسروا اللوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة ، وسموا ذلك بالكتاب المبين ، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء ، وسموا ظهورها في الوجود بالقدر ، وعلى ذلك درج الأصفهاني في شرحه على الطوالع حسبما نقله المنجور في شرح نظم ابن زكري مسوقا في قسم العقائد السمعية وفيه نظر . وورد في آثار مختلفة القوة أنه موكل به إسرافيل ، وأنه كائن عن يمين العرش ، واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه .
[ ص: 254 ] وجاء في آية سورة الواقعة إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ ، والكتاب المكنون شيء واحد .
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهي في الوقوع ، فالمحفوظ : المصون من كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له . والمكنون الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ، ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عزوها .
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له : اكتب ، فجرى بما هو كائن إلى الأبد ، رواه الترمذي من حديث وقال عبادة بن الصامت الترمذي : حسن غريب ، وفيه عن اهـ . ابن عباس
وخلق القلم لا يدل على خلق اللوح ; لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره .
والمجيد : العظيم في نوعه كما تقدم في قوله : ذو العرش المجيد ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهديا ووعظا ، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته .
ووقع في التعريفات للسيد الجرجاني : أن الألواح أربعة .
أولها : لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول .
الثاني : لوح القدر أي : النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ .
الثالث : لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا .
الرابع : لوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اهـ .
وهو اصطلاح مخلوط بين التصوف والفلسفة ، ولعله مما استقراه السيد من كلام عدة علماء .
وقرأ الجمهور محفوظ بالجر على أنه صفة لوح . وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن .
[ ص: 255 ] وقرأه نافع وحده برفع ( محفوظ ) على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله : في لوح بـ محفوظ . وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضا ، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن واللوح . فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين ، قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
وأما فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه ، أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى : اللوح المحفوظ في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون .