الفاء لتفريع الأمر بالنظر في ، على ما أريد من قوله : الخلقة الأولى إن كل نفس لما عليها حافظ من لوازم معناه ، وهو الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفا ، فالتقدير : فإن رأيتم البعث محالا فلينظر الإنسان مم خلق ليعلم أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول . إثبات البعث
فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة .
والنظر : نظر العقل ، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال ، فالمأمور به نظر المنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على إن كل نفس لما عليها حافظ .
و ( من ) من قوله : ( مم خلق ) ابتدائية متعلقة بـ خلق . والمعنى : فليتفكر الإنسان في جواب : ما شيء خلق منه ؟ فقدم المعلق على عامله تبعا لتقديم ما اتصلت به من من اسم الاستفهام .
وما استفهامية علقت فعل النظر العقلي عن العمل .
والاستفهام مستعمل في الإيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى : من أي شيء خلقه فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب .
وحذف ألف ما الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة .
[ ص: 262 ] ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله : عم يتساءلون عن النبإ العظيم .
والإنسان مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفا من مقتضى التفريع في قوله : فلينظر إلخ .
ومعنى دافق خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل .
وصيغة دافق اسم فاعل من دفق القاصر ، وهو قول فريق من اللغويين . وقال الجمهور : لا يستعمل دفق قاصرا . وجعلوا دافقا بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر .
وعن الفراء : أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا ، إذا كان في طريقة النعت . جعله من صيغ النسب كقولهم : لابن وتامر ، ففسر دافق : بذي دفق . وسيبويه
والأحسن أن يكون اسم فاعل ويكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جبر بمعنى انجبر في قوله :
قد جبر الدين الإله فجبر
وأنه سماعي .
وأطنب في وصف هذا الماء الدافق لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علما ويقينا .
ووصف أنه يخرج من بين الصلب والترائب لأن الناس لا يتفطنون لذلك .
والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز ، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب .
والصلب : العمود العظمي الكائن في وسط الظهر ، وهو ذو الفقرات .
والترائب : جمع تريبة ، ويقال : تريب . ومحرر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقوتين والثديين ، ووسمه بأنه موضع القلادة من المرأة .
[ ص: 263 ] والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة ، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال .
وقوله : يخرج من بين الصلب والترائب الضمير عائد إلى ماء دافق وهو المتبادر ، فتكون جملة يخرج حالا من ماء دافق أي : يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه . وبهذا قال سفيان والحسن ، أي أن أصل تكون ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب ، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب ، إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب ; لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين ، فجعل الإنسان مخلوقا من ماء الرجل لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل ، فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكون منه الجنين ويطرح ما عداه .
وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل ، مع التنبيه على أن بذكر الترائب ; لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة . خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة
ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة ، فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية ، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذنب دقيق كخيط ، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة .
ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة ، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة ، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين ، وخروج البيضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة ، فإذا انتهى [ ص: 264 ] نموها انفجرت فخرجت البيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم ، وإنما يتم بلوغ البيضة النمو وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها .
وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين ، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع وهو الصلب ، ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي مؤلف من شرايين وأوردة وأعصاب وينتهي إلى الأنثيين وهما الغدتان اللتان تفرزان المني ، فيتكون هنالك بكيفية دهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة .
وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب ; لأن فيه الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل . والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم ، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطهر ، والرحم يأتيها عصب من الدماغ .
وهذا من الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم ، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث الإعجاز العلمي في القرآن مسلم عن أم سلمة وعائشة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة فقال : تغتسل إذا أبصرت الماء . فقيل له : أترى المرأة ذلك ؟ فقال : وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك ، إذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله ، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه