والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر .
القسم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعة قدرته فيما أوجد من نظام يظاهر بعضه بعضا ، من ذلك وقت الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار ، ووقت الليل الذي تمخضت فيه الظلمة ، وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادة الله وحده ، مثل الليالي العشر ، والليالي الشفع ، والليالي الوتر .
والمقصود من هذا القسم تحقيق المقسم عليه ; لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المقسم ربه على ما تضمنه كلامه .
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد .
والكلام موجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله : ألم تر كيف فعل ربك بعاد وقوله : إن ربك لبالمرصاد .
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين .
والمقصد من تطويل القسم بأشياء ، التشويق إلى المقسم عليه .
والفجر : اسم لوقت ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإظلام عن أول خط يلوح للناظر من الخطوط الفرضية المعروفة في [ ص: 313 ] تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ، ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع .
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الانصرام وهو وقت مبارك للناس ، إذ عنده تنتهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت ، ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم .
فالتعريف في ( الفجر ) تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف ( والليل إذا يسر ) .
ويجوز أن يراد فجر معين : فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة . وقيل : فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة ، فيكون تعريف ( الفجر ) تعريف العهد .
وقوله : ( وليال عشر ) : هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل التي هي وقت مناسك الحج ، ففيها يكون الإحرام ودخول عشر ذي الحجة مكة وأعمال الطواف ، وفي ثامنتها ليلة التروية ، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر . فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر . وهو قول ابن عباس وابن الزبير وروى أحمد عن والنسائي ) عن أبي الزبير ( المكي عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : جابر بن عبد الله إن العشر عشر الأضحى وقال ابن العربي : " ولم يصح وقال رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة " اهـ . ابن عساكر
ومناسبة عطف ليال عشر على الفجر أن الفجر وقت انتهاء الليل ، فبينه وبين الليل جامع المضادة ، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله : والليل إذا يسر خصت قبل ذكره بالذكر ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل .
وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ، ثم غيرت [ ص: 314 ] مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السنة القمرية من النسيء ، فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام ولا يعرف متى بدأ ذلك الاضطراب ، ولا مقادير ما أدخل عليها من النسيء ، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى ، ولكننا نوقن بوجودها من خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيئه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة عام حجة الوداع ، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنة في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : . إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع ; لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة .
فأوقات العبادات تعيين لإيقاع العبادة ، فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ; ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاق اسم السبب على الوقت ; لأنهم يريدون بالسبب المعرف بالحكم ولا يريدون به نفس الحكمة .
وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به ، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني ، ولكن إذا اختلفت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها .
فقسم الله تعالى بالليالي العشر في هذه الآية وهي مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه .
والشفع : ما يكون ثانيا لغيره ، والوتر : الشيء المفرد ، وهما صفتان لمحذوف ، فعن جابر بن عبد الله عن النبيء صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر ، ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ، ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله : وليال عشر ، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل وقد تقدم آنفا ، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام ، بعد شمول الليالي العشر لهما . والنسائي
[ ص: 315 ] وفي جامع الترمذي عن أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : عمران بن حصين . قال الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر الترمذي : وهو حديث غريب ، وفي العارضة أن في سنده مجهولا ، قال ابن كثير : وعندي أن وقفه على أشبه . عمران بن حصين
وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين .
وقيل : الشفع يومان بعد يوم منى ، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات ، فتكون غير الليالي العشر .
وتنكير ليال وتعريف الشفع والوتر مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام ، وتعريف الشفع والوتر يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر .
وفي تفسير الشفع والوتر أقوال ثمانية عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي ، وأكثرها لا يحسن حمل الآية عليه ، إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر .
وقرأ الجمهور ( والوتر ) بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبكر بن سعد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبيء صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية ، فهما لغتان في الوتر . بمعنى الفرد .
والليل عطف على ليال عشر عطف الأعم على الأخص أو عطف على الفجر بجامع التضاد . وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته .
ومعنى يسري : يمضي سائرا في الظلام ، أي : إذا انقضى منه جزء كثير ، شبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السرى كما شبه في قوله : والليل إذ أدبر وقال : والليل إذا سجى ، أي : تمكن ظلامه واشتد .
وتقييد الليل بظرف إذا يسر لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا وقال : ومن الليل فاسجد له وسبحه .
[ ص: 316 ] وقرأ أبو نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب إذا يسري بياء بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل : الفجر ، عشر ، والوتر ، حجر ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاع تعامل معاملة القوافي ، قال أبو علي : وليس إثبات الياء في الوقف بأحسن من الحذف وجميع ما لا يحذف وما يختار فيه أن لا يحذف نحو القاض بالألف واللام يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة ، فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء . وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل .
وقرأ الباقون بدون الياء وصلا ووقفا . وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء ، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقوف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سنة أو اعتدادا بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف .
وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يوهن رسم المصحف روايتهم ; لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومراعاة الوقف تكثر في كيفيات الرسم .