يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذكري إذا كان فعل ( أنذرتكم ) مستعملا في ماضيه حقيقة وكان المراد الإنذار الذي اشتمل عليه قوله : ( وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) إلى قوله تعالى : ( تردى ) . وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدل على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصل على إنذار مجمل .
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعل ( أنذرتكم ) مرادا به الحال ، وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في : قد قامت الصلاة ، وقولهم : عزمت عليك إلا ما فعلت كذا ، أي : أعزم عليك ، ومثل ما في صيغ العقود : كبعت وهو تفريع على جملة ( إن علينا للهدى ) والمعنى : هديكم ، فأنذرتكم إبلاغا في الهدى .
وتنكير ( نارا ) للتهويل ، وجملة ( تلظى ) نعت . و ( تلظى ) : تلتهب من شدة الاشتعال . وهو مشتق من اللظى مصدر : لظيت النار كرضيت ، إذا التهبت ، وأصل ( تلظى ) : تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار .
[ ص: 390 ] وجملة ( لا يصلاها إلا الأشقى ) صفة ثانية أو حال من ( نارا ) بعد أن وصفت . وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) والقرينة على ذلك قوله : ( وسيجنبها الأتقى ) الآية .
وذكر القرطبي أن قال : هذه الآية التي من أجلها قال أبا إسحاق الزجاج أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا : أن لا يدخل النار إلا كافر ، وليس الأمر كما ظنوا : هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى ، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اهـ .
والمعنى : لا يصلاها إلا أنتم .
وقد أتبع ( الأشقى ) بصفة ( الذي كذب وتولى ) لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك ، فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتولوا ، أي : أعرضوا عن القرآن ، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ ، فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين : إما كافر ، وإما مؤمن تقي ، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإسلام بشراشرهم ، ولذلك عطف ( وسيجنبها الأتقى ) إلخ ؛ تصريحا بمفهوم القصر وتكميلا للمقابلة .
والأشقى والأتقى مراد بهما : الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام .
وذكر القرطبي : أن مالكا قال : صلى بنا فقرأ ( عمر بن عبد العزيز والليل إذا يغشى ) فلما بلغ ( فأنذرتكم نارا تلظى ) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء ، فتركها وقرأ سورة أخرى .
ووصف الأشقى بصلة ( الذي كذب وتولى ) ووصف الأتقى بصلة ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) للإيذان بأن للصلة تسببا في الحكم .
وبين ( الأشقى ) و ( الأتقى ) محسن الجناس المضارع .
[ ص: 391 ] وجملة ( يتزكى ) حال من ضمير ( يؤتي ) ، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله بقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضا بالمشركين الذين يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور .
والتزكي : تكلف الزكاء ، وهو النماء من الخير .
والمال : اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها .
ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل .
وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم ، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله .
وقوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) الآية ، اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة - رضي الله عنه - لما أعتق أبو بكر الصديق بلالا قال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت عنده . وهو قول من بهتانهم يعللون به أنفسهم كراهية لأن يكون لبلال أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين ، فأنزل الله تكذيبهم بقوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) مرادا به بعض من شمله عموم ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص العموم ، ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى ) وقوله : ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) .
و ( عنده ) ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازا في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب ، قال الحارث بن حلزة :
من لنا عنده من الخـير آيا ت ثلاث في كلهن القضاء
و ( من نعمة ) اسم ( ما ) النافية جر بـ ( من ) الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي ، والاستثناء في ( إلا ابتغاء وجه ربه ) منقطع ، أي : لكن ابتغاء لوجه الله .
[ ص: 392 ] والابتغاء : الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي .
والوجه مستعمل مرادا به الذات كقوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ) ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضى الله .
وقوله : ( ولسوف يرضى ) وعد بالثواب الجزيل الذي يرضي صاحبه . وهذا تتميم لقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) ؛ لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات .
وحرف ( سوف ) لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله : ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) أي : يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد .
واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر .
وهذه من جوامع الكلم ; لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون . وبهذه السورة انتهت سور وسط المفصل .