[ ص: 485 ] ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه .
قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحال المشركين بحال الذين آمنوا بعد أن أشير إليهم بقوله : وذلك دين القيمة ، استيعابا لأحوال الفرق في الدنيا والآخرة ، وجريا على ، وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم ، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ؛ ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم ، فإن الله شكور . عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذرين ببشارة المطمئنين
والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلا عن حالهم ، لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجة ، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة .
والقول في اسم الإشارة ، وضمير الفصل والقصر وهمزة البريئة كالقول في نظيره المتقدم .
واسم الإشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم ( إن ) .
وجملة جزاؤهم عند ربهم جنات عدن إلى آخرها ، مبينة لجملة ( أولئك هم خير البريئة ) .
و عند ربهم ظرف وقع اعتراضا بين ( جزاؤهم ) ، وبين جنات عدن ؛ للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدخر لهم عند ربهم تكرمة لهم لما في ( عند ) من الإيماء إلى الحظوة والعناية ، وما في لفظ ربهم من الإيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه ( عند ) ، وما يناسب شأن من يرب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان .
وإضافة : ( جنات ) إلى ( عدن ) لإفادة أنها مسكنهم ; لأن العدن الإقامة ، أي : ليس جزاؤهم تنزها في الجنات ، بل أقوى من ذلك بالإقامة فيها .
[ ص: 486 ] وقوله : خالدين فيها أبدا بشارة بأنها مسكنهم الخالد .
ووصف الجنات بـ تجري من تحتها الأنهار ؛ لبيان منتهى حسنها .
وجري النهر مستعار لانتقال السيل تشبيها لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي .
والنهر : أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه . وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام ; لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر .
وجعل جزاء الجماعة جمع الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع ، أي : لكل واحد جنة ، كقوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم وقولك : ركب القوم دوابهم ، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحسر . قال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان .
وجملة رضي الله عنهم حال من ضمير ( خالدين ) ، أي : خالدين خلودا مقارنا لرضى الله عنهم ، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضى الله عنهم ، وذلك أعظم مراتب الكرامة . قال تعالى : ورضوان من الله أكبر ورضى الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده .
وأما الرضى في قوله : ورضوا عنه فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه ، كقول أبي بكر في حديث الغار : " " . وقول فشرب حتى رضيت مخرمة حين أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء " رضي مخرمة " . وزاده حسن وقع هنا ما فيه من المشاكلة .