كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعا بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام . والواو عاطفة أو حالية .
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والذين كان حظهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله كنتم تمنون الموت أريد به يوم تمني لقاء العدو أحد ، وعدم رضاهم بأن يتحصنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدفاع ، كما أشار به الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولكنهم أظهروا الشجاعة وحب اللقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظرا لقوة العدو وكثرته ، [ ص: 108 ] فالتمني هو تمني اللقاء ونصر الدين بأقصى جهدهم ، ولما كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كل واحد منهم بتلف نفسه في الدفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدو ، وهيأ النصر لمن بقي بعده ، جعل تمنيهم اللقاء كأنه من أول الأمر ، تنزيلا لغاية التمني منزلة مبدئه . تمني الموت
وقوله من قبل أن تلقوه تعريض بأنهم تمنوا أمرا مع الإغضاء عن شدته عليهم ، فتمنيهم إياه كتمني شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .
وقوله فقد رأيتموه أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحققة ، التي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله فقد رأيتموه تمثيلا ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدة التوقع ، كإطلاق الشم على ذلك في قول : الحارث بن هشام المخزومي
وشممت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدد
وكإطلاقه في قول ابن معدي كرب يوم القادسية : فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت .والفاء في قوله فقد رأيتموه فاء الفصيحة عن قوله كنتم تمنون والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنيتم فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وجملة وأنتم تنظرون حال مؤكدة لمعنى رأيتموه ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظكم من ذلك النظر ، دون الغناء في وقت الخطر ، فأنتم [ ص: 109 ] مبهوتون . ومحل الموعظة من الآية : أن ، ويسبر مقدار تحمله لمصائبه ، ومحل المعذرة في قوله المرء لا يطلب أمرا حتى يفكر في عواقبه من قبل أن تلقوه وقوله فقد رأيتموه ومحل الملام في قوله وأنتم تنظرون .
ويحتمل أن يكون قوله تمنون الموت بمعنى تتمنون موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنه تعريض بهم بأنهم ليسوا بمقام من يتمنى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس بملوم عليه ، ولكن اللوم على تمني مالا يستطيع كما قيل تمني الشهادة
إذا لم تستطع شيئا فدعه
. كيف وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال ولوددت أني أقتل في سبيل الله ، ثم أحيا ثم أقتل ، ثم أحيا ، ثم أقتل عمر اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وقال : ابن رواحةلكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي أرشدك الله من غاز وقد رشدا